أضف إلى المفضلة
الجمعة , 29 آذار/مارس 2024
الجمعة , 29 آذار/مارس 2024


الأمم الحية تكافئ عظماءها ولو بعد حين

بقلم : موسى العدوان
24-07-2016 03:00 PM

لم ترق هذه الإنجازات العظيمة والتي قد تحول تركيا من دولة علمانية إلى دولة إسلامية. فقام اليهود تساندهم دول أوروبا بتحريض حزب الشعب الجمهوري لخلق الاضطرابات والقلاقل وزعزعة الاستقرار في البلاد وتشويه سمعة مندريس شخصيا. فتحرك الجيش التركي الذي يعتبر نفسه حاميا للعلمانية الأتاتوركية، وأعلن انقلابا عسكريا على الحكومة القائمة بقيادة ' اللواء جمال جورسيل ' بتاريخ 27 مايو 1960. وتم القبض على مندريس حيث وجهت له تهمة: ' رفع الأذان بالعربية وتحويل تركيا من العلمانية إلى الإسلام، ومحاولة إعادة الخلافة الإسلامية ' بالرغم من تصريحاته المتكررة في الالتزام بالنظام العلماني وعدم التوجه لإلغائه أو استبداله.


' وأنا على أعتاب الموت أتمنى السعادة لبلدي وشعبي'

' عدنان مندريس '

بمناسبة الأحداث الأخيرة ومحاولة الانقلاب الفاشلة على نظام الحكم التركي من قبل العسكر في منتصف هذا الشهر، تعود بي الذاكرة إلى عقد الخمسينات من القرن الماضي، عندما تولى خلالها عدنان مندريس رئاسة الحكومة، لفترة عشر سنوات متواصلة بغرض المقارنة.

وعدنان مندريس ( 1899- 1961 ) هو أول زعيم سياسي منتخب ديمقراطيا في تاريخ تركيا الحديث. وكانت بداية حياته السياسية نائبا في البرلمان يمثل حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك. لكنه انفصل عن الحزب مع ثلاثة نواب آخرين وشكلوا الحزب الديمقراطي برئاسته، وخاضوا الانتخابات النيابية لكنهم لم يحصلوا إلا على 62 مقعدا من أصل 503 مقاعد.

وفي انتخابات عام 1950 فاز الحزب الديمقراطي بأغلبية ساحقة، مكنته من تشكيل الحكومة برئاسة عدنان مندريس. وكانت حملته الانتخابية قد ارتكزت على ثلاثة محاور رئيسية هي : عدم تدخل الحكومة في شئون القطاع الخاص، تخفيف الإجراءات العلمانية الصارمة، والمزيد من حرية الاعتقاد والديمقراطية.

وعلى ضوء ذلك تم السماح بعودة الأذان باللغة العربية، والسماح للأتراك بالحج، وإنشاء المدارس وتعليم اللغة العربية، وفتح 20 ألف مدرسة لتحفيظ القرآن، و22 معهد لإعداد الدعاة لنشر الإسلام الصحيح، وتشييد 10 آلاف مسجد، وإلغاء تدخل الدولة في لباس المرأة، والسماح بحرية ممارسة الشعائر الدينية والمعتقدات. ثم عمل مندريس على تقوية العلاقات مع الدول العربية، وطرد السفير الإسرائيلي من تركيا عام 1956.

بعد تشكيل الحكومة وتولي جلال بايار رئاسة الجمهورية، قام مندريس بإصلاحات عديدة منها : إدخال التكنولوجيا الزراعية إلى الأرياف، وتقديم الجرارات والحاصدات الزراعية إلى الفلاحين، وتوزيع الأسمدة الكيماوية عليهم، وتزويدهم بالمرشدين الزراعيين، وإنشاء السدود الكبيرة في معظم المناطق، وإقامة العديد من مخازن الحبوب.

ونتيجة لذلك أخذت تركيا تتصدر الدول الأوروبية والشرق الأوسط في إنتاج : القمح، والبندق، والتين المجفف، والعنب، والقطن، والشاي، ومختلف أنواع الخضار والفواكه. وفي مجال النقل فقد ربط جميع القرى بشبكات جيدة من الطرق المعبدة، وفي مجال الصناعة أنشأ معامل النسيج، ومعامل عصير الفواكه، ومصانع الإسمنت، ولوازم البناء، ومصانع الأحذية، ودباغة الجلود، ومعامل الصابون والأحذية. أما في مجال العلاقات الدولية، فقد انضمت تركيا في عهده إلى حلف الناتو، وارتبطت بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من دول العالم.

لم ترق هذه الإنجازات العظيمة والتي قد تحول تركيا من دولة علمانية إلى دولة إسلامية. فقام اليهود تساندهم دول أوروبا بتحريض حزب الشعب الجمهوري لخلق الاضطرابات والقلاقل وزعزعة الاستقرار في البلاد وتشويه سمعة مندريس شخصيا. فتحرك الجيش التركي الذي يعتبر نفسه حاميا للعلمانية الأتاتوركية، وأعلن انقلابا عسكريا على الحكومة القائمة بقيادة ' اللواء جمال جورسيل ' بتاريخ 27 مايو 1960. وتم القبض على مندريس حيث وجهت له تهمة: ' رفع الأذان بالعربية وتحويل تركيا من العلمانية إلى الإسلام، ومحاولة إعادة الخلافة الإسلامية ' بالرغم من تصريحاته المتكررة في الالتزام بالنظام العلماني وعدم التوجه لإلغائه أو استبداله.

نجح الانقلاب وسيطر الجنرال جمال جورسيل وعدد من الضباط على الحكم وحظي الانقلاب بدعم الولايات المتحدة الأمريكية. تولى جورسيل منصب رئيس الجمهورية، فأحال 235 جنرالا و 5000 ضابط على التقاعد من بينهم رئيس هيئة الأركان. ثم أوقف نشاط الحزب الديمقراطي واعتقل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأرسلهما إلى جزيرة ' ياسي أضه '. وبعد محاكمة شكلية تم الحكم على رئيس الجمهورية جلال بايار بالسجن مدى الحياة، والحكم على رئيس الوزراء عدنان مندريس، ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو، ووزير المالية حسن بولاتكان بالإعدام.

وفي أواسط شهر سبتمبر 1961 عند تنفيذ حكم الإعدام بمندريس قال عبارته التالية وهو على خشبة المشنقة :' وأنا على أعتاب الموت أتمنى السعادة لبلدي وشعبي '. نفذ حكم الإعدام بمندريس شنقا، وبعد أيام نفذ الحكم نفسه بوزيريه دون أن يقترفا جريمة يستحقان عليها هذا العقاب، وتم دفنهم جميعا في ذات الجزيرة.

خلال الفترة التي أعقبت تنفيذ الإعدام بالزعماء الثلاثة، أحس الأتراك بأن مندريس ورفيقيه قد قتلا ظلما، واستمر هذا الإحساس يتصاعد عاما بعد عام حتى عام 1990، عندما التقط الرئيس التركي تورغوت أوزال نبض شعبه. فأوعز لنواب حزبه الذي يمثل الأغلبية في البرلمان بإصدار قانون لرد الاعتبار إلى مندريس ورفيقيه، فأصدر البرلمان بتاريخ 11 ابريل 1990 قانونا برد الاعتبار للمذكورين حظي بموافقة رئيس الجمهورية.

صدر الأمر بنقل رفات القتلى الثلاث من الجزيرة إلى مقبرة خاصة، أقامتها بلدية إسطنبول على تلة مطلة على أحد أوسع شوارع منطقة ' توب كابي '. وفي 17 سبتمبر 1990 في الذكرى 29 لإعدامهم شارك أوزال مع أركان الدولة وقادة الجيش ورؤساء الأحزاب وجماهير غفيرة من الشعب التركي، باستقبال رفات القتلى ودفنهم في المقبرة الخاصة وقراءة الفاتحة على أرواحهم. وفي كلمته التأبينية وصفهم أوزال :' بأنهم شهداء الوطن '. فأعيد لهم الاعتبار بعد موتهم، وجرى تسمية مطار أزمير والعديد من الشوارع والجامعات بإسم مندريس عرفانا لدوره في الحياة المدنية التركية، وإدانة ورفضا لإرث العسكر وانقلاباتهم الدموية.

واليوم وفي عهد الرئيس رجب طيب أردوغان – وبعيدا عن أية مواقف متحيزة – فلابد من القول أن تركيا حققت تقدما اقتصاديا وإنجازات غير مسبوقة، وأنهت وصاية العسكر على الحياة السياسية، وجرمت الانقلابات العسكرية، فأصبحت دولة عظيمة لها مكانتها ودورها في السياسة الإقليمية والدولية. وها هو شعبها يهبّ اليوم ليحمي منجزاته الوطنية التي تحققت في عهد زعيمها أردوغان، ليفشل محاولة الانقلاب التي كادت أن تودي بكل إنجازات الدولة، وتزعزع استقرارها من خلال حكم عسكري ديكتاتوري، لو كتب له النجاح فقد يعيدها عقودا إلى الوراء. وهكذا تكافئ الأمم الحية عظماءها سواء في حياتهم أو بعد مماتهم ولو بعد حين.

التاريخ : 26 / 7 / 2016


التعليقات
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012