أضف إلى المفضلة
السبت , 20 نيسان/أبريل 2024
شريط الاخبار
بحث
السبت , 20 نيسان/أبريل 2024


الزوج المهدود والموظف " المقرود " !

بقلم : بسام الياسين
27-09-2016 03:12 PM

((( الزوج المهدود...1)))
*** إستيقظ مُبكراً كي يتحاشى ازمة المواصلات في مثل هذا اليوم من مطلع كل اسبوع.الناس تتدافع لحجز مقاعدها في الحافلة الهرمة كأنها سفينة الخلاص من غرق يحيط بالركاب من كل جانب.دعك وجهه بالماء والصابون ليغسل عوالق النوم من عينيه،ولتلميع بشرته الداكنه من الافراط في السهر والتدخين. نظر الى المرآة الهرمة المعلقة فوق المغسلة.استغرب من صمودها الاسطوري،رغم ما اصابها من شروخ .اخذ يجفف بقايا الماء العالقة على اطراف ذقنه، ويزيل الصابون المتراكم فوق حواف اذنيه.

ـ على غير المالوف هذه المرة ـ توقف متأملاً وجهه بدقة. من عاداته اليومية حلاقة ذقنه بسرعة دون تدقيق في ملامحه حيث يقوم بهذه المهمة الروتينية بطريقة آلية.الايام لا تعنيه فيما العُمر عنده مجرد رزنامة تتساقط اوراقها،لا يشده فيها سوى ما هو مطبوع على قفاها من آيات كريمة،احاديث نبوية،حكم قديمة، امثال شعبية ، ابيات شعرية،وغالباً ما يحتفظ ما يروق له منها او يحفظه ليستشهد به في احاديثه.هو لا يعير نفسه اهتماماً بالمطلق،وهو لا يدري سببها أهي تركيبته النفسية ام عادة مكتسبة...فديدنه الاسراع في كل شيء،تلك المهارة التي اكتسبها من عمله المكتبي في الوزارة،فقد تدرب على انجاز المعاملات بسرعة، تحت ضغط العمل حتى اصبح كالرجل الروبوت.

....جُلَّ همه في مثل هذا اليوم من كل اسبوع الذي اطلق عليه 'يوم الحشر'، مغادرة البيت قبل انطلاق صرخة من احد اطفاله الغارقين في النوم،والوصول الى الوزارة قبل اشتداد 'ازمة المواصلات ساعة الذروة الصباحية ' التي تبلغ اسوأ مراحلها، عند وصول حافلات المحافظات التي تقل الموظفين من كل فج عميق،وتقذفهم في المجمع كنفايات بشرية.ما يزيد الطين بلة، ان بيته يقع في منطقة شعبية نائية،جميع قاطنيها من ذوي الدخل المحدود، يعتمدون كلهم على حافلات النقل العام.لهذا فان مشكلته مضاعفة،لذلك عليه القيام بـ ' المدافشة'،و احياناً العراك في موقعين و الا ضاع دوامه.

هذا اليوم المشؤوم ، شده شيء خفي للتحديق في وجهه.لاحظ بعض التجاعيد التي رسمها الزمن في غفلة عنه على صفحة وجهه ،والزحف الحثيث لصلعته من الجبهة الامامية التي احتلت مساحة واسعة من راسه المفلطح. ما زاد الامر سوءاً، الدوائر الزرقاء المحيطة بعينيه الذابلتين الغائرتين في كهفهما اللتين تتحركان بحذر وخوف، كأن صاحبهما اقترف خطيئة لا تغتفر. جفل من منظره الصادم. تضاريس وجهه ليست كما هي... للوهلة الاولى لم يعرف نفسه...خطوط طولية و اخرى عرضية...اخاديد غائرة...مطبات منفوخة،وخيوط شيب غزت حاجبية...!.

فزع من صورته...احس بقشعريرة تضرب جسده مثل زلزال مدمر، قوته اشد من سبع درجات على مقياس ريختر النفسي ضرب جهازه العصبي...ادرك انه لم يعد هو...قطعاً هو شخص آخر...حاول التمرد على واقعه الواقع بإبتسامة وديعه تخفف من وطأة الامر الواقع...لكن دمعة كاوية فرت من عينه،وتدحرجت لتستقر كجمرة على طرف شاربه الذي نسي تشذيبه منذ زمن بعيد،فاصبح مثل حديقة خلفية مهملة لتكديس ' كراكيب العائلة' التي جرى الاستغناء عنها.

لاحظ ان الافكار السوداء اخذت تتخطفه،و الايام الرتيبة تنهشه مثل فريسة،وقعت بين انياب وحش جائع...همَّ بمغادرة المنزل ليأخذ موقعه في الطابور الصباحي لمؤسسة النقل العام،وليتحرر من كابوسه الذي اخذ يطبق على خناقه،ويكاد ان يكتم انفاسه...لا شعورياً، مدَّ يده في جيبه ليتفقد ' الفراطة ' لان سائق الحافلة كل صباح يعاني من ازمة صرافة ،و احياناً كثيرة يخرج عن وقاره رغم كبر سنه صارخاً في الركاب الذين يحملون قطعاً نقدية كبيرة :ـ 'انتو بتفكروني البنك المركزي...ربي خلصني من هل المهنة ' ؟!....شعر بهزة تعصف في كيانه.لم يبق من راتبه الهزيل الا بضعة دنانير وقليل من الفراطة فيما الشهر لم تنتصف ايامه.وللتحايل على ذاته المأزومة، قرر ان يعرج على غرفة الاطفال، لعله يأخذ 'جرعة معنوية' او ' لحسة سعادة' من النظر الى وجوههم البريئة وهم غاطسون في احلامهم الوردية.انحنى لتقبّيل اصغرهم الذي يحمل له مودة خاصة،وقبل ان يلمسه انفجر الطفل باكياً.

هُرعت الزوجة من الغرفة المجاورة على عجل وكأنها مأمور مقسم سريع الاستجابة ترد من الرنة الاولى ، وبيدها رضاعة الحليب...خضتها بعصبية واضحة ثم اودعتها فم الصغير لتُسكت جوعه وتُسكت صراخه.استدارت نصف استدارة نحو الزوج المتسّمر مكانه مثل نصب تذكاري،اصدرت الامانه امراً بازالته،بناءً على توجيهات مرجعية عٌليا بحجة انه يشوه المدينة ويعيق حركة السير دون ان تنظر اليه لتخبره :ـ ان علبة الحليب نفذت،و كيس الحفاظات لم يبق فيه الا قطعة واحدة،وطلبت منه احضارهما فوراً،فالطفل لا يستطيع الانتظار حتى ' تُشرف سعادتك ' من الدوام.

((( الموظف المقرود...2 )))
*** ورث صديقي الفقر عن جده الثالث عشر.فمنذ ان تفتحت عيناه على الحياة،و هو مثقل بالدين من قمة راسه حتى اخمص قدميه.لذا تراه اما شاكياً همومه او نادباً حظه.في كلتا الحالتين يُصاب بسُعار التدخين، فيشعل سيجارة من اخرى،لدرجة ان صديقه اللصيق في العمل اقسم ثلاثاً :ـ ان المذكور لم يشترِ في عمره علبة كبريت او قداحة...فهو يشعل السيجارة الاولى من غاز المطبخ،ويمضي يومه ينفخ مثل ' كير الحداد '.لهذا تجده يعاني من ربو مزمن،وبعد كل نوبة سعال، فصال عنيف من النحنحة، لطرد مخزون البلغم المتراكم في صدره،لا يلبث ان يعود ثانية ليواصل التدخين،ثم يبدأ بموال شتم مَنْ اخترع الكمبيالة من تحت الزنار،ورغم تسفله اللفظي يعذره من يعرفه،اذ انه لا ينتهي من كمبيالة الا ويوقع اخرى، وكأنها قدر محتوم دُمغ على جبينه.اما اطرف ما روته امه له ان ' الداية' رفضت سحبه عندما تعسر طلقها الا بعد ان وقع لها ابوك ' كمبيالة' ،زاعمة انه على الحديدة لا يربط من لسانه انما ' تكتفه' الكفالة.

تحت ظل هذه الظروف القهرية، تولدّت لدى صديقي عقدة نفسية، تمثلت بفكرة مسيطرة تُعرف في علم النفس بـ ' الوسواس القهري'...فكرة مسيطرة لا يستطيع الافلات منها على مدار الساعة...تطارده مثل ' محضر المحكمة' الذي يتتبعه في كل مكان كظله،وتلازمه كفقره المتوارث الذي يطلق عليه الفقر الازلي و احياناً ' الفقر الجيني' كمتلازمة ' داون' التي تنتج عن تغيرات صبغوية في كروموسومات الجنين.

الفكرة القهرية التي تلح عليه نهاراً وتؤرقه ليلاً،هي لماذا لا يدفنه ذووه واقفاً حين يحين اجله،بدل دفنه مبطوحاً على جنبه ؟!.اذ ان الدفن مبطوحاً ما هو الا تكريس لحالة الانبطاح الدنيوية التي عاشها على امتداد حياته البائسة.فتكريم الميت لا يكون بالمناسف المُجللة باللحم البلغاري،بل دفنه واقفا تحت الارض،ليسترد كرامته المفقودة فوقها.
مدونة بسام الياسين


التعليقات

1) تعليق بواسطة :
27-09-2016 03:59 PM

قطعتان أدبيتان يبوح بهما الصحفي والأديب بسام الياسين بأسلوبه الراقي الذي يمتع القارئ ويشده للتوقف عند كل جملة فيهما، ويجعله يعيش الحدث الموصوف وكأنه أحد أطرافه. كنت أتمنى على الصديق المحترم أن لا يجمع جوهرتين في حقيبة واحدة، بل يقدمهما لنا في وجبتين واحدة بعد الأخرى، لكي نستمتع بقراءة كل منهما بصورة منفردة. ولا يسعني إلا أن أقول: سلم فكرك وقلمك المبدع، ولك التقدير والاحترام على ما تقدمه من غذاء للروح والفكر في جميع مقالاتك.

2) تعليق بواسطة :
27-09-2016 06:45 PM

استاذ بسام انت رائع ببساطة وبدون أستذة ومزابط وحتم

3) تعليق بواسطة :
27-09-2016 08:06 PM

اضحكتني حتى البكاء وأحرجتني مع من حولي. سامحك الله إبداعك ليس نتاج موهبة وثقافة فقط بل معاناة عميقة وحياة قاسيه ومريره.قلي من ظلمك! وكيف تتدبر أمور حياتك ! أرفع لك قبعتي وأنحني

4) تعليق بواسطة :
28-09-2016 02:10 AM

مع تقديري للاستاذ بسام الياسين في طرحه لمواضيع من واقع الحياه اليوميه والتي تسودها الكلمات المنمقه والناقده. ولكنني اختلف معه في تشبيهه للموظفين بأن حافلات المحافظات عندما تصل تقذفهم كنفايات بشريه .

5) تعليق بواسطة :
28-09-2016 08:17 AM

عندما يعجز القاريء عن مجاراة ابداع الكاتب ويقف عند اعتاب المقال لا يملك شيئا ليقوله لان المبدع لم يبقي له مجالا للتعليق هذا هو بالضبط حالي ، وقد كفانا استاذنا الكبير قدرا وعمرا الباشا موسى العدوان عناء التعليق واعادني المعلق رقم 3 (الاستاذ المبدع ) الى الموروث الشعري وذكرني بابيات شعريه لا ادري من هو قائلها :
لا يعرف الشوق الا من يكابده
ولا ألصبابة الا من يعانيها
لا يسهر الليل الا من به الم
لا تحرق النار الا رجل واطيها
انت دائما مبدع استاذنا العزيز بسام امد الله في عمرك ومتعك بالصحة

6) تعليق بواسطة :
28-09-2016 10:43 AM

*
وإني لك من الشاكرين ..........

*

7) تعليق بواسطة :
28-09-2016 01:41 PM

هذه كلمات يغنيها الصوت العذب محمد عبده بموال رائع وبعده ينطلق بالأغنيه سقا الله موعدك يا زين.

حركه جميله.

8) تعليق بواسطة :
28-09-2016 03:25 PM

اولا شكرا اخي الفاضل على التوضيح ، صدقني انني لم اسمعها كموال او اغنيه من المطرب محمد عبده اوغيره ، هذه ابيات شعر احفظها قديما ، واوردتها تعقيبا على تعليق الاخ المعلق الكريم رقم 3 في حديثه عن المعاناه العميقه والحياه القاسيه والمريره فذكرني بهذه الابيات .
ولك كل الاحترام والتقدير

9) تعليق بواسطة :
28-09-2016 04:43 PM

هذه الابيات من عيون الشعر العربي ومتدوالة بين المثقفين،ويتبادلها العشاق في رسائلهم للتعبير عن شدة المعاناةوالالم والسهر و القصيدة طويلة للشاعر "الظاهر الصنعاني".

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012