بقلم : الأب فادي هلسا
29-09-2016 03:00 PM
عشنا في الكرك في أحياء متعددة غالبية سكانها من المسلمين .
نشأنا وترعرعنا سويا .
في شارع القلعة كان بيتنا كنا نقضي أنا وأصدقائي وزملاء المدرسة التي كانت في نفس الشارع كل النهار سويا .
صباحا في المدرسة وعصرا حتى المساء لعبا في الشوارع . كان الأمن رائعا ونتبادل السلام ونحن أطفال مع رجال الشرطة .
وقتها لم نكن نجرؤ على أي فعل خاطئ في الشارع حين يخطئ أحدنا لا نعرف من أين خرج علينا رجل أو شاب يؤنبنا وقد يضربنا إن كان الخطأ فاحشا والويل لنا إن عرف أهلنا بخطئنا .
في الصف الثاني الابتدائي أذكر حين وزعوا علينا الكتب المدرسية كيف غلطوا معي وسلموني كتاب التربية الإسلامية وكان يسمى وقتها كتاب الديانة وكان مقررا أيضا جزء من القرآن الكريم هو جزء عمَّ .
وحين رجعت للبيت انتبهت والدتي إلى ذلك فاتصلت بمدير المدرسة ذكره الله بالخير الأستاذ عبدالله موافي وأخبرته بالأمر وطلبت أن لا يُشعرني أحد بذلك وأن أحضر حصص الدين الإسلامي وأمتحن مع الطلاب وأذكر أني كنت متفوقا عليهم في تلك المادة الدراسية .
كنت وقتها حديث التخرج من الروضة الإسلامية أي روضة الإخوان المسلمين التي لها الفضل الكبير في تأسيسي دراسيا وسلوكيا وأذكر بكل فخر واعتزاز مسؤولها في ذلك الوقت الأستاذ عبدالمجيد الذنيبات .
في الحارة كنا أصدقاء واستمرت صداقتنا نقية صافية حتى اليوم وفي نفس الحارة رجال ونساء كبار في السن كان فيهم ملء البركة والبساطة والنقاء .
أذكر حين كنا نركض ونلعب بالقرب من المسجد الحميدي في السرايا القديم .
حين نعطش كنا ندخل المسجد ونشرب من جرة ماء كبيرة موجودة داخل الجامع .
لم أسمع منذ ذلك الحين بتسمية مسيحي مسلم فالكل في عيش مشترك الفرح واحد والحزن واحد والعادات والتقاليد واحدة .
وحتى اليوم وأنا الآن في سلك الكهنوت المسيحي ما زالت ذكريات عطِرة تتراقص أمام عينيّ أذكر كل تلك الأحداث بالفخر والاعتزاز والشموخ .
أذكر كيف كان كاهن كنيسة الروم الكاثوليك الأب عيسى سويدان والشيخ محمد الخطيب إمام المسجد العمري رحمة الله عليهما كيف يسيران في الشارع وأيديهما متشابكة ويتبادلان زيارات والود والاحترام .
والكرك يمكن اعتبارها نموذجا لكل الأردن إنها محبة جمعت الجميع بلا مصلحة فالحياة بسيطة خالية من التعقيد والمناسبات كلها مشتركة كلنا سويا .
حين تمر هذه الذكريات أمام عيني أكاد أقول للفيلسوف أفلاطون :
أنت تمنيت في خيالك مدينة فاضلة لكن تمنياتك بتلك المدينة عشناها في الأردن قيما وأخلاقا وتربية .
عشنا ونعيش تلك المدينة الفاضلة بجميع أبعادها .
وأختم بوفاة شقيقي في يوم 10 / 8 / 2016 حين أتى خبر الوفاة لم يعد البيت يتسع لكل جيراني المسلمين اللذين امتلأ البيت بهم وفي عيونهم قبل ألسنتهم عبارات العزاء والاستعداد للمساعدة المادية مهما كان مقدارها .
ولن أنسى شباب الحباشنة والمعايطة والصرايرة اللذين قاموا بتجهيز المرحوم للدفن وتحضير القبر .
أشعر برعشة تكتنف جسدي كله
هذه هي الكرك وهذا هو الأردن مبارك ليس لكونه موطئ أقدام الأنبياء والقديسين فهو مبارك بنية أهله الطيبين وتلاحمهم والتئامهم سويا في السراء والضراء .
وفي الجيش العربي والأجهزة الأمنية شهداء مسيحيين ومسلمين اختلطت دماؤهم سويا فعبق الأردن برائحة الطيب والمسك .
ولا أنسى سياسة ملوك الهاشميين في ترسيخ تلك السياسة وها هو ملك البلاد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين يسير على نفس النهج في ترسيخ مبادئ الثورة العربية الكبرى التي آخت بين المسيحي والمسلم الشركسي والشيشاني أصولنا الأردنية والفلسطينية مسيحيين ومسلمين كلنا انصهرنا في بوتقة الحب .
وحين يعصف بنا الألم بفقدان عزيز في حادثة من هنا أو من هناك يرى العالم كله حقيقة الأردن وشعب الأردن والقيم التي تربى عليها جميع الأردنيين .
فمبارك أنت يا أردن ذو المساحة الصغيرة لكنه الكبير بإنسانه الواعي مبارك ثراك الطهور الذي جُبلنا منه ونعيش عليه ومباركة هي سماءه التي نتنسم هواءها وشذا عبير أزهار الأرض مباركة هي دماء الشهداء التي كانت رابط التلاحم والعيش المشترك بسلام وأمان ليبارك الله قيادتنا الهاشمية ولينير خطى جلالة الملك لما فيه خير الجميع .
آمين