أضف إلى المفضلة
الأربعاء , 11 كانون الأول/ديسمبر 2024
الأربعاء , 11 كانون الأول/ديسمبر 2024


ما بعد الإرهاب ما بعد الإسلام السياسي

بقلم : إبراهيم غرايبة
14-07-2017 11:22 PM
لا تخرج الحالة الدينية السائدة اليوم بكل أبعادها ومخاطرها ومتوالياتها عن السياسات الرسمية لعالم العرب خاصة والمسلمين عامة، ويتشكل اليوم في المدارس والجامعات والمؤسسات الرسمية خطاب ديني ليس مختلفا عن خطاب الجماعات التي تحاربها السلطات الرسمية، ثمة مبالغة في الدور الديني للدولة، وفي إضفاء القداسة والدينية على قضايا ومفاهيم تربوية وأخلاقية ووطنية واقتصادية وتاريخية، ولم يعد سهلا مراجعتها أو تطويرها، وتضع الدول والمجتمعات نفسها ضد ذاتها، وتلحق ضررا بمصالحها ومواقفها أكثر مما تفعله الجماعات المتطرفة. وفي الوقت نفسه فإن الحالة الدينية الناشئة تعرض سيادة الدول والتزاماتها نحو المواطنين والمقيمين والمواثيق والقيم الدولية والإنسانية للخطر والتهديد. ولا يبدو برغم ذلك أن الدول اكتسبت مصداقية دينية أو حققت انسجاما مع اتجاه الأغلبية المجتمعية المتدينة والمحافظة، عدا ما صار من نافلة القول عن حالة الكراهية الدينية التي جعلت من العرب على اختلاف اتجاهاتهم ومواقفهم عبئا على العالم.

وإذا كانت السياسات الدينية القائمة متقبلة في مرحلة سابقة فإنها لم تعد كذلك في ظل تطور الحالة الدينية إلى كارثة عربية وعالمية، ولم يعد ثمة مناص من مواجهة الذات وإعادة بناء الخطاب الديني على النحو الذي يميز بوضوح بين الديني وغير الديني والثابت والمتحول والمقدس وغير المقدس، وأن يصحح علاقة الدولة بمواطنيها وبالمجتمعات وبالعالم المتداخل بعضه ببعض.

وعلى الرغم من الإقرار بالعقبات والآلام المصاحبة للسياسات الجديدة، لكنها تظل أقل ألما وخسائر من استمرار الحالة القائمة، .. لكن الأكثر صعوبة أننا لا نملك خطابا دينيا بديلا! والحال أن الإصلاحيين والمعتدلين يملكون وضوحا في الأهداف ورؤية النهايات المأمولة لكنهم لا يملكون إجابة عملية عن السؤال البديهي والأساسي 'كيف؟' وربما لا يكون ثمة خيار عملي بديل سوى الانسحاب الرسمي من الشأن الديني وتعويمه وتركه للأفراد والمجتمعات برغم صحة الاعتراض على ذلك باحتمالات الفوضى والتطرف، لكن التورط في الدور الديني للدولة لم يكن أفضل حالا، وتستطيع السلطات على أي حال في فترة زمنية معقولة أن تشجع حراكا مجتمعيا مستقلا عنها لخطاب ديني عقلاني وفردي يلائم المتدينين ويخدم السلم الاجتماعي وأهداف الدول والمجتمعات والأفراد.

إن القلق من مشاركة الأفراد والمجتمعات في السياسات العامة التي كانت تحتكرها الدولة لا يقتصر على الشأن الديني، لكنه يمتد أيضا إلى مجالات أخرى كثيرة سبقنا العالم في إسنادها إلى المجتمعات والأسواق، مثل الثقافة والفنون والرياضة وكثير من الخدمات والسلع الأساسية، وكما تحولت الدول باتجاه خصخصة كثير من الخدمات والسلع بما في ذلك من آلام وتضحيات؛ فإنها تواجه الخيار نفسه اليوم في الشأن الديني والثقافي، بل إنه لم يعد معقولا أن تتخلى الدولة عن كثير من أدوارها الاقتصادية والخدماتية وتواصل تأميم الدين والثقافة، ذلك أن مصداقية دورها الديني والثقافي كان مستمدا من ولايتها الشاملة على احتياجات المواطنين وأولوياتهم، .. أما وقد تركت للمجتمعات والأسواق ان تنظم بنفسها خدماتها واحتياجاتها فقد فقدت تلقائيا شرعيتها الاجتماعية والدينية، وأصبحت في حاجة لرواية جديدة للشرعية وسلطتها مستمدة من سيادة القانون والحريات والعدالة والمشاركة.

وفي ذلك لن تقتصر إنجازات الدول على إنشاء فرص راجحة لتصحيح الحالة الدينية ووضعها في سياق الإصلاح والتقدم؛ لكنها أيضا تنسجم مع الاتجاهات العالمية المعاصرة في الشراكة مع المجتمعات وتقليل دور الدولة فيما يمكن للمجتمعات أن تؤديه. وينسجم أيضا مع فكرة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والرابط القانوني بين المواطنين وفي تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وعلى أي حال فلن تستطيع دول العرب أن تواصل حالتها الشاذة عن الاتجاه العالمي، فهي تخرج نفسها من مدار العالم، وتكاد تفلت من الكون نفسه ليبتلعها المجهول والفناء.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012