عدنان عبيدات    
' الناسُ أجناسٌ ' أو معادن ، قـولٌ مأثـور نَبَتَـتْ حـروفُـه مـن صميم الحيـاة ، و من كنوز الخبرة المتراكمة الممتدة على مدى الزمن ، أفرَزَه واقعُ التعامل بين بني البشر ، وفقاً لتباين الفطرة والجِبِلَّة ( بالمعنى الحِسِّي والمعنوي ) . وهذا أمرٌ طبيعيٌّ أودَعَه الخالقُ المبدعُ الحكيم في ذُرِّيَّةِ آدَمَ عليه السلام ، بل هو آية من آيات الله اقتَضَتْها حِكْمَتُه سبحانه ، حيث جاء في محكم التنزيل في سـورة الـروم قـولُ الحـقِّ عَـزَّ وجَـلَّ :' ومـن آيـاته خلـقُ السـموات والأرض واختلافُ ألسِنَتِكم وألْوَانِكم إنّ في ذلك لَآياتٍ للعـالِمِين ' . الآية 22 .          جـاء في الكشاف للزمخشري في تفسيرهذه الآية : ' خالف عَزَّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لاتكاد تسمع منطقـين متفقـين في همس واحد ولا جهارة ولاحِـدَّة ولا رخـاوة ولا فصاحة ولا لكـنة ولا نظـم ولا أسـلوب ولا غير ذلك .. ' . وفي الحديث الشريف أنَّ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ' خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ كُلِّهَا فَخَرَجَتْ ذُرِّيَّتُهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ مِنْهُمُ الأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَالأَسْمَرُ وَالأَحْمَرُ وَمِنْهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَمِنْهُمُ السَّهْلُ والحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ' .

وهكذا يَصْدُرُ هذا التباينُ عن حكمةٍ  إلهيةٍ بالغةٍ تستحقُّ بل وتستوجب كثيراً من التأمل والإعتبار . إذ أنَّ أمـرَ الدنيـا لايـسـتقيم على حال ، فهناك العـدل والجور، والشر والخير ، والغِنَى والفَقْـر والحَقُّ والباطل ...والقائمة تطول .
 ووجودُ الأضدادِ فيها جعلها ذاتَ مغزى ؛ فلولا المُرُّ ونقيضُه الحُلْوُ ما تَمَيَّزَ الطعم  ، ولولا السهـلُ ما عَـزَّ الصعب ، ولولا القُبْحُ ما كان الحُسْنُ ، ولولا حقارةُ الشَّر ما تَجَلَّت عظمةُ الخير ، ولولا الكذبُ ما كان الصدق . وإلاّ كيف تسمو مكانةُ الصدق والأمانة والنقاء وتَرْدَى مكانةُ الكذب والخيانة والإفتراء ، وكيف يرقى الجـريء ويَخْـزَى الجبـان ، وكيـف يعلـو العالـِمُ على الجاهـل والعاقلُ على السفيه .

النَّاسُ لايـسـتـوون ، لـكنهـم يُـشَـكِّلـون طَـيْفــاً واســعاً متمـايزاً فـي الصفـات والأخـلاق ، والمـزاج والطبـاع ، وليـس مـن عجَـبٍ أنْ تَجِـدَ بينهـم صاحبَ قلـبٍ صافٍ وآخرَ ذا قلـبٍ حـاقـدٍ أسْـوَدٍ كرِيه ، وصاحبَ نفـسٍ سخيةٍ كريمة وصاحبَ نفـسٍ شحيحةٍ لئيمة ، أو تجـد مَـنْ هـو بارز تحت الشمس ومـن هـو قابع في الظلام والجهـل ، مـن يترفع عـن الدَّنايا ومـن يغـوص فـي الوحـل ، يتراوحون بين مظلومٍ متعثر و ظالمٍ مُستكبِر وعابِثٍ مستهتِر ، أو قانعٍ مُطْمَئِن ولاهِـثٍ لا يَـسـْتَكِنُّ  ، بعضُهم مُسَخَّرٌ لخدمة بعض ، فهـذا يَتَصَـدَّرُ غـيرَه وذاك يتَّبِـعُ ذَيْلـَه ، وفـي كـل درب وصوبٍ شـتات . تنازعٌ دائـمٌ و صراعٌ مُحتـدِم ، قد عَـلِمْنا لـه بداية وما عـلمنا لـه نهـاية .
وفي هذا المقام ً أجتزىءُ أبياتاً من قصيدةً طويلة يقول فيها الشاعر :
فـلمـــا مضـى العهــدُ القديـمُ بأهلـه            وأعقَبَهَــم نـسْـلٌ تَداعَـتْ بـه الهِــمم وجدت بهم رهطاً وضِيعاً تساقطوا            بليــلٍ ومـا زالــوا قطيعــاً بـلا ذِمَـم تَنَــــادَوْا فَهَبُّـــوا مُنْتَخِينَ أَصَـاغِرا            بإيقـــاعِ ذُلٍّ يَـرْقُصــون علـى نَغَــم
فمنهــم حَقـودٌ ماكِـرٌ بِئْـسَ مِن فتى            بـذيءٌ مُـسِـيٌ مُفْــــتَرٍ حَــالُـه سَـقَـم خبيـثٌ خـسيـسٌ خـائبٌ فِعْلُــهُ أذى            وإِجمالُهُ فـي الـشَّـرِّ نــارٌ مِـن حِـمَم
يُــسَــرُّ إذا حَلّـَت بـِقـــــومٍ مُصـيبةٌ            ويهتـاجُ مُغْتِاظاً إنِ الحــالُ يَــسْـتَقِم
مـا لَـذَّ عَيْشٌ طابّ إنْ لـم يَكُنْ ذِئْباً            يَحيـفُ بـِأهــلٍ أو بحـقٍّ لـذي رَحِــم
فهـذا يَـسِــيرٌ مِـن خِـــلالٍ ذَمِـيمَــةٍ            تَداعَى لها إِخْـوانُ ســوْءٍ على خَـمَم لكِنَّ مـا يَـشـفي الصدورَ عصائبٌ             بَـرَاءٌ من الأضغانِ والشَّـيْنِ والتُّهَـم فمنهـم حليـــمٌ ذاكـــرٌ فضـلَ رَبِّـه             منيـبٌ مُجِـلٌّ مُخْبِـتٌ شـــاكِـرُ النِّعَـم حَـيِيٌّ أَبِـيٌّ بــــاذِلٌ مــا بِـوُسْــعِـهِ              نَقِـيٌّ نَـدِيٌّ مُحْـسِـنٌ واصِـلُ الـرَّحِـم أخــو صَـوْلَـةٍ فَحْــلٌ أَشَـــمّ يُجِلُّـهُ              كَثِـيرٌ مـن الأشْـهاد قَـدْراً على قَـدَم وهـذا يـسـيرٌ مـن خِصالٍ حَميـدةٍ              تَحَلّى بهــا أعـوانُ خَــيْرٍ ذَوُو رَتَـم فـريقان غَـثٌّ مِـن سـمينٍ تمايزوا              وكُـــلٌّ بمــا لـديه ســــاعٍ  ومُلْـتَزِم نَقِيضـانِ كُـلٌّ منهـما صـارَ مَذْهباً             فسبحانَ ربِّي بارِىءِ الخلقِ من عَدَم فكـم آيـةٍ فـي الكـونِ مُعْجِـزَةٍ معـاً             بَدَتْ لِأُولـي الألبابِ منظومةَ الحِكَم

الناسُ في الدنيا أجناسٌ . خُلِقُوا كذلك ، ولن يَخْرُجَ أحدٌ من الدار الفانية بشيء سـوى عمله ، ولن يُفضِي أحـدٌ إلاّ إلى ما قَـدّم .  قـال تعالى : ' أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثا وأنكم إلينـا لا تُرجعـون ' . سَــنَفِـدُ على رب العـزة والجـلال ،  نَمْثُل بين يديه في موقف يجعـل الولـدان شـيباً ، يوم تذهـل فيه كـل مرضعة عما أرضعت ، وَصَفَه العزيزُ الحكيم بأنه  يوم لا ينفع فيه لامال ولا بنـون إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم . فمن منا يستخلص من كل هذا وذاك عِبرةً وعِظات ؟ . اللهم أحْسِن سـابِقَتَنا وأحسن خاتمتَنا . سـبحان الله أحكم الحاكمين ، والحمـد لله  رب العالمين .