أضف إلى المفضلة
الجمعة , 19 نيسان/أبريل 2024
الجمعة , 19 نيسان/أبريل 2024


الرجل النموذج للتعلق بالقرية ... بقلم : موسى العدوان

بقلم : موسى العدوان
10-08-2018 07:07 PM


الرجل النموذج في عنوان هذا المقال، أقصد به الرئيس أنور السادات – رحمه الله - عندما كان طفلا ثم شابا، وقبل أن يصبح رئيسا لجمهورية مصر العربية في وقت لاحق. وسأركز في حديثي هنا على النواحي الإنسانية واعتزازه بالقرية مسقط رأسه، بعيدا عن النواحي السياسية ونتائجها التي حدثت فيما بعد. وهي قصة رجل عصامي مكافح، بدأ من طفل فقير وعمل في أبسط وأصعب المهن – لا مجال لذكرها هنا - إلى أن تولى أعلى منصب في الدولة. إنها قصة جديرة بالقراءة والتمعن لما فيها من دروس وعبر أوردها في مذكراته بعنوان : ' البحث عن الذات '.

ولد السادات في عام 1918 من عائلة فقيرة في إحدى قرى مصر تدعى ميت أبو الكوم، وأتم علومه الابتدائية في القرية ثم انتقل لاحقا لدراسة الثانوية والجامعية في القاهرة. يقول السادات في مطلع كتابه ما يلي وأقتبس بشيء من التصرف :

' العسل وصل . . يعلن المنادي في أزقة وساحات القرية . . وتهرع جدتي وأنا أسير خلفها صبي أسمر اللون ضئيل الجسم حافي القدمين يرتدي جلبابا تحته قميص أبيض من البفتة . . لا تفارق عينيه زلعة العسل الأسود . . ذلك الكنز الذي استطعنا الحصول عليه أخيرا. كم كان شهيا عندما نخلطه باللبن الرايب . . !

وبعد شروق الشمس كنت أسير مع عشرات الصبية والفتية والرجال، أصحاب الدواب والبهائم في موكب خروج الفلاحين، للعمل وسط خضرة لا يحدها البصر، وبسطة الأرض التي تبدو وكأنها لا أرض بعدها. كل شيء كان يسعدني في ميت أبو الكوم قريتي الوديعة القابعة بين أحضان دلتا النيل.

هذا العمل الجماعي مع الغير ومن أجل الغير، دون أن أنتظر منه ربحا أو فائدة لي، جعلني أشعر أني لا أنتمي إلى أسرتي الصغيرة في دارنا أو أسرتي الكبيرة في قريتنا . . بل إلى شيء أكبر وأهم هو الأرض. وفي رحلة العودة مع الغروب والدخان ينبعث من البيوت مؤذنا بعشاء شهي ينتهي بعده اليوم في القرية . . والهدوء يخيم على الجميع والسلام يعمر قلوبنا . . كنت أتأمل الشجر والزرع، وأحس برباط خفي من الحب والصداقة يربطني بكل ما حولي.

كانت حياتي بهجة تتلوها بهجة . . فكل يوم يأتي بشيء جديد . . موسم الزرع . . موسم الري . . الحصاد . . موسم حصاد القمح . . وموسم حصاد القطن . . الذي يأتي دائما مع البلح. وعندما كنت آخذ البهائم إلى الترعة لتشرب . . أو أجلس على النورج لدرس القمح . . وأشترك مع الصبية في جمع القطن، وكيف كنت أغترف القطن وأضعه في عبي ثم أهرع إلى بائعة البلح وأعطيه لها فتعطيني ما يقابله من البلح. لقد كانت حياتي بالقرية اكتشافات تعقبها اكتشافات وكأنها ساقية تدور على بحر كل ما به دائما جديد . . . . .

في المدرسة الثانوية تفتحت عيناي لأول مرة على أهل المدينة وعرفت معنى الطبقة والفوارق . . ففي المدرسة كان معي ابن وزير الحربية وابن وكيل وزارة المعارف . . وكان كل منهما يتنقل إلى المدرسة ويعود منها إلى البيت في سيارة فاخرة ( كونبيل ) كما كنا نسميها في القرية . . منظر مبهر للغاية ولكنه لم يترك في نفسي أي أثر للغيرة أو الحقد . . وطبعا زملائي في الفصل كانت ملابسهم أفضل من ملابسي بكثير، ولكن هذا لم
يصبني بأي عقدة.

كان لي أصدقاء من أولاد الذوات يعيشون في بيوت فخمة لم أرها من قبل، ولكني لا اذكر أنني تطلعت إليهم إطلاقا، ففي البلد عندنا دار وبهائم والجميع يعرفون أنني ابن الأفندي وقبل كل شيء عندنا الأرض التي أنتمي إليها . . صلبة . . لا تزول . . تماما مثل قيم أهل القرية التي لا يعرفها أهل المدينة.

إن أفضلهم في نظرهم هم أعناهم مالا وأكثرهم حسبا ونسبا . . أما نحن في القرية فلا نعير هذه الأشياء لأي اهتمام . . الرجل الذي على خلق عندنا قيمة عليا في ذاته رغم ما يكون عليه من فقر مدقع . . وفي القرية شيء اسمه العيب . . وينتمي بعضنا إلى بعض بالتآخي والتعاون والحب. أما هم في المدينة، فينتمون إلى مالهم وسلطانهم وبيوتهم الكبيرة الفاخرة وكلها عرض زائل فاقد القيمة '. انتهى الاقتباس.

* * *

* التعليق :

- كان الرئيس السادات متعلقا بالأرض ومستمتعا بطبيعة العيش في القرية، وكثيرا ما سمعناه يردد في خطاباته عبارة ' أخلاق أهل القرية '، التي تدل على الأمانة والشرف وتقديس الأرض.

- عاش في بداية حياته على الكفاف لا يجد النقود لشراء ما يحتاجه من غذاء وملابس، ورغم مشاهدة زملائه أبناء الذوات في المدرسة الثانوية بما هم عليه من رغد العيش، والسكن في القصور الفخمة، والتنقل بسيارات فارهة، إلا أن ذلك لم يؤثر في نفسيته وبقي دائم الحنين والتطلع إلى قريته والافتخار بها.

- هذا هو النموذج الحقيقي الذي جسدة السادات في بواكير عمره لحب الوطن، الذي يبدأ بحب القرية ليتسع ويشمل الوطن بأكمله، مع الحفاظ على التقاليد العريقة البعيدة عن تلك المستوردة من الخارج، والتي تؤدي إلى الانحلال والتفكك والتفريط بالأوطان.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012