أضف إلى المفضلة
الخميس , 28 آذار/مارس 2024
الخميس , 28 آذار/مارس 2024


السودان... يا خسارة!

16-01-2011 07:53 AM
كل الاردن -

 
د. آية عبد الله الأسمر

قدرنا أن نكوّم الجراح على رفوف الروح بصمت، ونزرع الطعنات في ثنايا الجسد بصمت، ونتجرع سم القهر بصمت، ونتلوى من الألم بصمت. احترفنا الصمت حتى فقدنا القدرة على الكلام بل وضاعت منا في غياهب الصدمة اللغة والأحلام.

نتلقى الصفعة تلو الأخرى ولا نكاد نستيقظ من كابوس حتى يتلقفنا آخر وتغرقنا دوامات الكوارث التي تتوالى على منطقتنا دون أن نتمكن من التقاط الأنفاس.

منذ ما يزيد على ستين عاما ونحن ننوح ونعول على فلسطين ونصرخ "من البحر إلى النهر" حتى ضاعت من البحر إلى النهر، جارفة معها القدس وأبناء غزة ورموز المقاومة وحق العودة وحلم العودة وباقات الذكرى، ولم يتبق لنا اليوم سوى سلطة من ثلة لصوص تقامر بالتاريخ والأرواح ومستقبل ألقوه على قارعة التشرد والضياع والهزيمة تحت شعار "قم وصالح، واركع وصالح، وانس الدماء وصالح، أبناء عمك صالح".

يبقينا لبنان دائما على أهبة الاستعداد ما بين كر وفر بين 14 آذار و8 آذار حتى كرهنا شهر آذار، الذي بات يهدد أمن وسلامة واستقرار لبنان ودولها المجاورة، التي تتابع تفاصيل تفاقم الأحداث بأنفاس متهدجة وعيون تورمت من كثرة البكاء على محاولات مستميتة غايتها القضاء على آخر رمق للمقاومة في المنطقة، بعد تلجيم المقاومة الفلسطينية من الداخل وعبر الحدود ومن الخارج.

انهمرت دموعنا بغزارة وصرخت حناجرنا المقهورة حتى جرحها القهر إبان احتلال العراق وقصف بغداد، إلا أن القصف استمر على بغداد وعلى الشعب وعلى الوجدان والصمت والخوف، استمر القصف على المعاني العظيمة وعلى الكبرياء واستمر الموت، استمر القصف يتبجح بعهره في سماء العاصمة حتى سقطت بغداد، آخر العواصم وآخر الأصوات، وانهد السور وسقط السد وانطفأ آخر نجم رفض التطبيع، وعاد صوت جوليا بطرس يئن في الآذان: الشعب العربي وين؟ وين الملايين؟

اليوم يطل علينا السودان بوجهه الشاحب ونظراته الكسيرة وصوته العليل يلفظ أنفاس وحدته على فراش الوهن والعجز، يحتضر بين أيدينا دون أن نجرؤ على ملامسة خده أو الأخذ بيده أو الربت على ظهره، نخشى من أن نتهم من قبل أولئك المتآمرين على تاريخه وعظمته بأننا إرهابيون ومعادون للسامية، لازم علينا أن نقف بصمت وأن "نتفرج" بحياد تجاه شؤونه الداخلية احتراما لسيادته وخيار شعبه.

اعذرني أيها البلد الحبيب لأنني غير قادرة على انتهاج مبدأ الحيادية السلبي المقيت، ورغما عني أجدني أتابع شؤونك الداخلية بمرارة تغص الفؤاد وأنا أدعو المولى عز وجل أن يفاجئنا الاستفتاء بنتائج نعلم أنها لن تكون.

اليوم هو اليوم السابع والأخير على استفتاء الانفصال الذي يلهث نحوه الجنوبيون وسلطة الجنوب وقوى أخرى تبتسم بخبث من وراء الكواليس.

لقد عاصرت سنوات من الحرب أثناء دراستي في جامعة الخرطوم في السودان ولمدة خمسة أعوام، وأعلم كم تتوق الأرواح المتعبة من حمى الحرب إلى قطرة راحة وقرص استقرار وملعقة سلام، ورغم معرفتي بأن الحرب الأهلية في السودان أزهقت الملايين من الأرواح ولم تحصد سوى الفقر والأمراض والتشرد والكراهية والبغضاء، كما أنها أنهكت الاقتصاد السوداني الذي تكبد البلايين من الدولارات وشل مشاريع التنمية كافة، كما وأزعم أن المواطن السوداني الجنوبي لم يتم التعامل معه بإنصاف كمواطن من الدرجة الأولى ولم ينل حقوقا دستورية كاملة وشاملة ومرضية، وأقر بأنه من العدل والإنصاف –إذا- أن يطالب جنوب السودان بالانفصال وإعلان دولة مستقلة لا يرضخ فيها لسلطة أو دين أو لغة أو قانون لا يرتضيهم لنفسه وأبنائه.

إلا أنني مازلت غير مستعدة لأن أصحو يوما وأجد سودانين بدلا من السودان، ليندثر مع نتائج الاستفتاء غدا أريج حلم كنا قد استنشقناه منذ الطفولة عن سلة غذاء الوطن العربي بمساحاته الخضراء الشاسعة وخيراته الوارفة وإمكاناته الواسعة وموارده المرصوفة على ضفاف النيل والمكوّمة في العمق الإفريقي.

كنا نحلم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بالوحدة من المحيط إلى الخليج، إلا أن إخطبوط الفرقة جثم على الحلم مع بداية السبعينيات، ثم تقوقعنا في كهوف الخوف والتخبط والانكسار والشكوك الغائمة في ضباب الهزيمة والنكسة والمفاوضات السرية والمعاهدات المستقلة البعيدة عن أي تنسيق عربي موحد من أجل الوصول إلى حل دائم وشامل لا للقضية الفلسطينية فحسب، بل للوضع العربي المتذبذب بسبب القلاقل التي يحدثها الوجود الصهيوني المزروع عنوة في قلب المنطقة.

جاءت التسعينيات بالكارثة العراقية التي فتتت وحدته وأضاعت مكاسبه وقتلت وشردت وأذلت شعبه، ونهبت ثرواته وألقت به وحيدا كسيرا في ذل الأسر الأمريكي والإيراني والطائفي، وقد كانت الفاجعة العراقية مأزقا عربيا مزق الوحدة العربية الوجدانية المفترضة وأحدث شرخا عصيا في الصف العربي الواهي أصلا.

افتتحنا الألفية الثانية بانقسام لبنان على نفسه ما بين مؤيد للمقاومة والحرية والكرامة ومعارض للصمود والاستقلال والعزة لنزداد هلعا من الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية التي حفرت بكعب نعالها الحاد في عين الحلم العربي والقومية العربية فبتنا ننشد وحدة البلد الواحد وسلامة الأرض الواحدة وتآخي الشعب الواحد!

واليوم انقطعت شعرة معاوية وانقصم ظهر البعير بانقسام أكبر دولة إفريقية عربية ستخلّف وراءها جنوبا مقتطعا منفصلا وكذلك فريسة سهلة أمام أطماع أمريكية إسرائيلية أوروبية تطمح إلى موقع قدم لقدمها اليسرى بجانب قدمها اليمنى في أوغندة من أجل التغلغل أكثر في القارة السوداء بهدف توسعات استعمارية في الدويلات المفتتة والأوصال الممزقة على أشلاء شعوب تقودها سلطات انفصالية تفصّل مستقبل الوطن على مقاسات أجنداتها الخاصة.

  كل ما أتمناه هو أن أصحو من كابوس الاستفتاء اليوم على حلم الوحدة السودانية غدا لأعتذر بكل فرح وحب وفخر عن هذا المقال.


 

التعليقات

1) تعليق بواسطة :
16-01-2011 09:37 AM

اطمئني فلن تعتذري لأحد.فلم تنظم دول الغرب هذا الاستفتاء ليكرس وحدة السودان
بل ليمزقه امام عيون اشاوس العرب من المحيط الى الخليج

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012