أضف إلى المفضلة
الخميس , 25 نيسان/أبريل 2024
الخميس , 25 نيسان/أبريل 2024


مضر بدران.. أكثر رؤساء الحكومات عودة للموقع

25-01-2015 01:54 AM
كل الاردن -
محمد خير الرواشدة- يكشف رئيس الوزراء الأسبق مضر بدران عن جانب مهم من مذكراته السياسية، حيث تستضيفه 'الغد' في زاويتها، 'سياسي يتذكر' اعتبارا من اليوم.
وبدران الشخصية السياسية، التي غابت طوعا عن المشهد السياسي، على مدار الـ25 عاما الماضية، احتل لقب أكثر رؤساء الحكومات عودة للموقع، في عهد الراحل الملك الحسين رحمه الله، وبعدد أيام بلغت 3043 يوما، موزعة على تشكيل أربع حكومات. ويزهد بدران في الحديث مع الإعلام، ويقتصر ظهوره على بعض النشاطات الرسمية.
وتسعى 'الغد'، عبر زاويتها 'سياسي يتذكر'، لتوثيق الرواية الشفوية لتاريخ الأردن السياسي، حيث يلقي مدير المخابرات الأسبق بدران، في هذه السلسلة الضوء على جانب مهم من هذا التاريخ.
وينتمي بدران إلى مدرسة البيروقراطية الرسمية؛ وعلى الرغم من تصنيفه على هذا اللون من العمل الرسمي، إلا أن وزراء ونوابا، عملوا معه، وصفوه، بأنه صاحب ذهنية منفتحة على التعامل مع كل المستجدات.
وبدران، الذي شغل رئاسة الحكومة في سنوات وصفت بـ'بالغة الصعوبة'، يؤكد بأنه طوّع سنوات خدمته في الوظيفة الرسمية، التي استمرت من العام -1956 1991 لخدمة العرش والوطن، تاركا الحكم على أدائه للصادقين وللتاريخ.
لا يذكر الرئيس الأسبق بدران أحدا بسوء، وتحدث بدبلوماسية مفرطة، ويعلق في سلسلة مذكراته على الأحداث وليس الأشخاص.
وفي روايته لسيرته الذاتية وتجربته السياسية، ثمة عناصر تشويق توزعت على نشأته في محافظتي جرش والكرك، قبل السفر لدمشق ودراسته الجامعية، إلى جانب مواقف أبو عماد مع الراحل الحسين، التي يمكن وصفها بالعميقة والحادة.
وبدأ بدران حياته المهنية بعد إنهائه لدراسة الحقوق في جامعة دمشق، مشاورا عدليا في القوات المسلحة الجيش العربي، لينتقل بعدها للعمل مع محمد رسول الكيلاني، في مكتب المباحث العامة، وبعدها لدائرة التحقيقات السياسية، قبل أن يبدأ مع أبو رسول في تأسيس دائرة المخابرات العامة، ومعهم نخبة من الضباط الأكفاء وهم: أحمد عبيدات وطارق علاء الدين وهاني طبارة وأديب طهبوب.
تسلم بدران إدارة المخابرات العامة، بعد الكيلاني، ولم يمكث طويلا حتى استدعاه الراحل إلى الديوان الملكي، أمينا عاما، ثم مستشارا للأمن القومي، ثم مؤسسا لإدارة شؤون الضفة الغربية.
اختاره الراحل الحسين وزيرا للتربية والتعليم، في حكومة زيد الرفاعي الأولى، ثم أتى به رئيسا للديوان الملكي، قبل أن يشكل حكومته الأولى في العام 1976 وحتى العام 1979 في سنوات وصفت بالمعقدة.
استقال بدران وجاء بعده رئيس الوزراء الأسبق المرحوم عبد الحميد شرف، الذي توفاه الله وهو على رأس حكومته، وتولى مهمة الحكومة الانتقالية الدكتور قاسم الريماوي، حتى عاد بدران رئيسا للحكومة، ليستمر حتى العام 1984.
غادر بدران الحكومة، وفي خاطره اعتزال العمل السياسي، وظل يردد في قلبه، مبدأه بالزهد في هذا المجال، من العمل، وبعد أحداث العام 1989، استدعاه الراحل الحسين رئيسا للديوان، بمهمة مساندة رئيس الوزراء الأمير زيد بن شاكر في إجراء انتخابات العام 1989 لمجلس النواب الحادي عشر.
مباشرة، كلفه الراحل الحسين بتشكيل الحكومة ليواجه أقوى المجالس النيابية معارضة، وسعى بدران للتهرب من الأمر، لكن الحسين أصر على تكليفه، و'صدع' لأمر الراحل، وقبل بالمسؤولية وقدم أداء ملفتا ما يزال يذكره السياسيون حتى يومنا هذا.
تفاصيل كثيرة يكشف عنها بدران لأول مرة، وهو يؤكد بأنه ما كان ليقبل بالظهور للإعلام، لولا استشعاره بالمسؤولية التاريخية، التي تحتم عليه ذكر الكثير من المواقف، التي تنصف تاريخ المملكة والملك الراحل الحسين.
وكان بدران قد بدأ بسرد مذكراته السياسية أولا بأول، منذ العام 2011، لكنه قرر مؤخرا الكشف عنها ضمن نطاقين؛ الأول النشر في صحيفة 'الغد'، حيث يمكن التوثق أكثر من بعض التواريخ، قبل أن يُحضّر لكتاب مذكراته الذي سيحمل تفاصيل إضافية عن حياته السياسية.
وسيكون بدران ضيفا على 'الغد' في نحو 30 حلقة تنشر يوميا، وهي حلقات تمثل قصصها محطات غاية في الإثارة والتشويق.
واذا كان خصوم بدران وصفوه بالرجل اليميني المحافظ، فإن حلفاءه السياسيين، وصفوه بالديمقراطي السياسي، والصارم في تنفيذ الإجراءات، والمتشدد الاقتصادي.
ويرد هو على كل هذه الأوصاف، بأنه صاحب اجتهاد، ولا يعرف أن يكون جزئيا في العمل، فهو يعرف كيف يغرق في التفاصيل، لكن من دون أن يؤثر ذلك على ديناميكية حركته.
الحلقة الأولى اليوم يتحدث فيها بدران عن نشأته ودراسته الابتدائية في جرش والثانوية في الكرك، قبل السفر لدمشق ودراسة الحقوق في جامعتها، وهناك تفاصيل كثيرة سيتحدث فيها، عن النكبة ودمشق، وما بينهما من حياة سياسية.
وفيما يلي نص الحلقة:
* البدايات؛ من أين جاء جدك إلى الأردن، ومن أين جاء والدك، وسكن عمان؟
-جدي ووالدي شهدا فترة الحكم العثماني. والدي أنهى دراسته من الأزهر الشريف؛ وكان يسكن في القاهرة مع جدي وشقيقيه؛ الشيخ إبراهيم بدران، وهو أزهري، والصيدلاني
عبد الحليم بدران، الذي أقام لاحقا في السلط، واستقر فيها وظل عمله هناك أيضا.
والدي، بعد أن أنهى دراسته في الأزهر، ذهب إلى اسطنبول ليتخصص في القضاء زمن العثمانيين، وبعد أن أنهى من اسطنبول، جاء إلى مدينة حمص، حيث بدأ من هناك مشوار العمل القضائي، في حين كان خال والدي أيضا قاضيا في حمص، وبطبيعة الحال، القضاة في ذلك الزمن كانوا يحكمون في القضاء المدني والشرعي، وذلك في مطلع القرن الماضي، وبحدود ذاكرتي المنقولة عن والدي، يمكن أن يكون التاريخ في حدود العام 1913.
وهناك بدأ والدي عمله مأمورا للأجرة، وخاله القاضي الشرعي كان اسمه الشيخ مطيع الدرويش أحمد وأصله من مدينة جنين.
بعد حمص، انتقل والدي قاضيا رسميا لمنطقة تبوك (الحجاز)، في وقت كان فيه الحكم العثماني بنهاياته، وبعد تأسيس إمارة شرقي الأردن، جاء إلى الأردن وصار قاضيا في الإمارة، وتنقل بين مدن السلط واربد وعجلون، ثم جرش التي استقر فيها بعد أن خدم أيضا في إربد العام 1931؛ فأذكر بأن اخي أسامة رحمه الله من مواليد جرش، لكن اختي ربيعة كانت قد ولدت قبله ونحن نقيم في إربد.
بعد إربد أقام والدي طويلا في جرش، وقد كانت أمي أيضا من مواليد جرش أصلا. ولما أراد والدي أن يستقر هناك، بعد تعيينه قاضيا شرعيا عليها، قرر أن يسكن ويعيش بالقرب من سكن أخوالي، وتملك أرضا جوارهم وكان يزرعها، وبقي هناك حتى العام 1947.
*إذا، أنت من مواليد جرش؟
-ولدت في جرش العام 1934، وقد درست فيها حتى الصف السابع الابتدائي.
والدي لم يكن يرغب في الانتقال منها، خصوصا وأن أسرتنا بدأت تألف المكان وأهله، وصرنا نشعر بأننا أكثر استقرارا في جرش، لكن وبعد أن جاء قرار إداري بنقل والدي لمحافظة الكرك، ضمن السياسة التي كانت تعتمدها الدولة، في ذلك الوقت، بتوزيع الأطباء والمعلمين والقضاة، الذين كان عددهم قليلا على المحافظات، رحلنا إلى محافظة الكرك، ودرست فيها حتى أنهيت مرحلة الثانوية العامة، وهناك أخذت شهادة الثانوية (المترك).
ومن الكرك، بدأت رحلة الدراسة الجامعية باتجاه دمشق، حيث كنت بعد إنهاء دراستي الثانوية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الذهاب إلى دمشق، التي كانت جامعاتها تقبل المترك الأردني، وإما الذهاب إلى القاهرة التي تفرض جامعاتها على الطلبة دراسة سنة إضافية بعد شهادة المترك الأردني، وتعتبر تلك السنة بمثابة سنة 'التوجيهي'؛ لذلك لم أرغب بالذهاب إلى القاهرة وفضلت الدراسة في دمشق، حتى لا أزيد عدد سنوات دراستي الجامعية سنة إضافية، في القاهرة، وتلك كلف مالية كانت سترهق أسرتي، التي كانت مرهقة أصلا من هذه التكاليف، فقد كان أخي أسامة، وأنا وأخي عدنان ندرس في الخارج، كما كانت شقيقتي أيضا تدرس في دار المعلمات في فلسطين.
*كم عدد أفراد أسرتك، وما هو ترتيبك بين أشقائك وشقيقاتك؟
-نحن ثلاثة أشقاء وأربع شقيقات، وترتيبي الثالث بينهم، تكبرني شقيقتي ربيعة وشقيقي الدكتور أسامة.
*وهل كان الطريق إلى الجامعة في دمشق مفروشا بالورود؟
-عندما غادرت من الكرك إلى دمشق، كانت نيتي دراسة الطب، وقد كان طلبة الطب يدخلون في سنة جامعية، يدرسون فيها العلوم، ومن بعدها يتوزع الطلبة إلى كليات الطب أو الصيدلة أو يبقون طلبة في كلية العلوم، وقد وصفت هذه السنة الجامعية بالصعوبة البالغة، والدراسة المكثفة، وكانت تسمى بالرموز الفرنسية، بصف (البيه سيه بيه)، وفعلا فهي كانت تُفرز مستويات الطلبة على أسس دقيقة، ووفق معايير صارمة، ولذلك حظيت سمعة خريجي جامعة دمشق من كليات الطب والصيدلة والعلوم بسمعة واسعة وثقة عالية.
بالمناسبة، كدت أقبل في هذا الصف، لكن الظروف غيرت كل الاتجاهات في اللحظات الأخيرة.
*وكيف حصل ذلك؟
- قبل أن أغادر الكرك متوجها إلى دمشق، حمّلني والدي رسالة لرئيس الوزراء السوري، واستغربت الأمر كثيرا، فأنا لم أكن مستعدا لحمل رسالة لرئيس الوزراء الأردني؛ فكيف لي أن أقدمها لرئيس وزراء في بلد ليست بلدي.
كانت الرسالة موجهة لرئيس الوزراء السوري، في ذلك الوقت، وهو حسن الحكيم؛ في العام 1951، وكان مضمون الرسالة توصية لقبولي بكلية الطب في جامعة دمشق.
وقد سألت والدي عن معرفته برئيس الوزراء السوري، وأجابني بأنهما عاشا وعملا سوية أثناء إقامة والدي في حمص.
لقد كان أمر الرسالة بالنسبة لي صعبا، ولم أكن أنوي أن أذهب بها لمكان إقامة رئيس الوزراء السوري في السرايا.
في ثاني يوم من وصولي لدمشق، تشجعت لأن أحمل الرسالة وأذهب بها إلى السرايا، وبظني أنه مهما حصل فلن أخسر شيئا.
كان موقع السرايا على نهر بردى، بالقرب من ساحة المرجة، وهو عبارة عن مبنى عريق وضخم، وفعلا دخلت إلى مدير مكتب رئيس الوزراء، وطلبت مقابلة الحكيم، وحاول مدير المكتب أن يساعدني؛ إلا أنني طلبت منه أن أقابل رئيس الوزراء لأمر شخصي.
كان الرئيس الحكيم وقتها يعقد اجتماعا مع العلماء في سورية، وسألني مدير المكتب إن كنت أرغب بالدخول للمكتب أثناء الاجتماع، فوافقت.
لما دخلت كان اجتماع الحكيم مع العلماء ضمن حلقتين، الحلقة الأولى ضيقة وتحتوي على عدد قليل من المقاعد للجالسين، والحلقة الثانية هي الأوسع، وتضم عددا أكبر من الحضور، وطلب مني مدير المكتب أن اجلس في الحلقة الثانية.
انتهى الاجتماع وودع الحكيم ضيوفه حتى باب مكتبه، وبقيت جالسا حتى عاد الحكيم وسألني عن حاجتي، عرضت عليه الرسالة التي حملني إياها والدي.
قرأها ومباشرة نظر إلي مستغربا؛ وسأل: أنت ابن الشيخ محمد؟! وقام وعانقني بشدة، وشعرت بعدها بأن كل مخاوفي قد تبددت، خاصة وأن الرجل أحسن لقائي، وسألني أين نزلت في دمشق، وأجبته بأني أقيم بفندق، الى ان أعرف أين سأستقر، في دراستي الجامعية، فقال: أنت ضيفي وأصر علي أن آتي بحقائبي لمنزله، وشعرت بخجل كبير، ولكني استطعت أن أتهرب منه بقولي إن لي أقارب في دمشق ينتظرونني، وبالكاد أيضا تهربت من إصراره على تناول الغداء في بيته.
بعد ذلك كتب رئيس الوزراء الحكيم رسالة لرئيس جامعة دمشق، تضمنت توصيته المباشرة، وعند وداعه لي؛ أكد ضرورة أن أعود وأخبره بما سيحدث معي.
*ومن هناك هل قبلت في كلية الطب؟
-لا؛ ولذلك اتصال بما سبق، ذهبت إلى الجامعة وسلمت رسالة الحكيم لرئيس الجامعة، وخرج مدير التسجيل مباركا بأني قُبلت في الجامعة.
وغادرت الجامعة، ولدى وصولي الباب، شاهدت مظاهرة في الشارع، وبدأت تتحرك المظاهرة ومشيت معها لأعرف ماذا تريد، وعلى ماذا يعترض المشاركون فيها، توقفت المسيرة عند السرايا، وبدأ المشاركون يهتفون 'يسقط يسقط حسن الحكيم' فذهلت، وفورا قطعت الشارع للناحية المقابلة، وذهلت من الأمر، فكيف لي أن أشارك بمسيرة تطالب بإسقاط رجل، ساعدني قبل قليل، وهو صديق والدي بذات الوقت.
بعد أن وصلت المسيرة، والتي كانت تضم أعدادا كبيرة من المواطنين؛ لمبنى السرايا، خرج الحكيم، وتوقف أمام المظاهرة، وقال: بأنه سيذهب الآن إلى القصر الجمهوري ليتقدم باستقالته، وبالفعل هذا ما حصل، أمام كل ذلك وقفت مندهشا، وكل عقلي لا يفكر إلا بالمقعد الجامعي، الذي قد لا أحصل عليه بعد مغادرة الحكيم موقعه.
في اليوم التالي، ذهبت إلى الجامعة مباشرة، حتى أطمئن على نتيجتي في القبول بكلية الطب، وهناك قال لي مدير التسجيل بأن مقعد الطب لم يعد موجودا؛ فسألته لماذا؟ وأجاب: بأن حسن الحكيم غادر!!، كما أن هناك طالبا أحق مني بمقعد كلية الطب.
حاولت أن أحاور مدير التسجيل، وشرحت له بأن هذا القرار قد يؤخرني عاما دراسيا كاملا، لأن التسجيل في جامعة القاهرة عادة ما يغلق قبل جامعات دمشق، عندها أشار علي أن أسجل في كليات أخرى، واقترح علي التسجيل في كلية الحقوق، رفضت فورا بذريعة أني لا أحب الحقوق.
وعاد مدير التسجيل محاولا إقناعي بأن له أصدقاء من الأردن، درسوا الحقوق وصاروا وزراء، وذكر منهم؛ عبد الحليم النمر وشفيق ارشيدات، وقال: وأنت عليك دراسة الحقوق لتصبح وزيرا في بلدك، جادلته بالقول: كيف أصبح محاميا وأنا ألثغ بالراء؟!، فرد علي، بأن في كلية الحقوق وفي أول أيام الدراسة ستدرسك شخصية مهمة، وهو عدنان القوتلي، وهو ألمع محام في دمشق بالقضاء المدني، وهو يلثغ بستة حروف وليس بحرف واحد!.
طبعا استسلمت وقبلت، لأن المغامرة بأمر بحجم القبول الجامعي كان يعني لي التأخر عاما دراسيا كاملا، وبالفعل اكتشفت بأن مدير التسجيل قد بالغ في قوله، بأن القوتلي يلثغ بستة حروف، لكنه قطعا لا يلثغ بأقل من أربعة حروف!!، وقد عانيت في أول المحاضرات من الفهم والاستيعاب من الاستاذ القوتلي.
*وهل كنت فعلا تلثغ بحرف الراء؟
-نعم وبقيت ألثغ بهذا الحرف حتى بداية دراستي الجامعية، وبقيت في كل ليلة أغادر مكتبة الجامعة الساعة الثانية عشرة فجرا، وتستغرق مني رحلة العودة إلى البيت نحو ساعة ونصف سيرا على الأقدام، وبقيت أدرب نفسي على النطق السليم بحرف الراء طوال فترة العودة حتى نجحت بالأمر.
وبالعودة لمقعد الطب، الذي ذهب لصالح طالب غيري، فقد عرفت بأن الطالب هو أردني أيضا، لا بل وأعرفه أيضا؛ فقد درسنا سوية في جرش واسمه عبد الله الإمام، وكان طالبا مجدا وذكيا وقد ساعدنا في دراسة الحساب في المدرسة، لكنه لم يلتحق بدراسته الجامعية بسبب وفاته، رحمه الله، وقد توفي بعد أن حجز لنفسه مقعد الطب، وكنت أنا الطالب الاحتياط بعده، لكني لم أعرف عن خبر وفاته إلا بعد نحو أسبوعين، وكانت السنة الدراسية الجامعية قد بدأت.
بعدها آمنت بأن الانسان مسير وليس مخيرا، فقد حصل كل ذلك لأدرس الحقوق، وليس أي تخصص آخر.
*وكيف بدأت مشوار دراستك الجامعية، وهل اقتنعت بدراسة الحقوق، أم أن موقفك من دراستها بقي يلازمك حتى تخرجت؟
-دعني أقول لك: بأن الدراسة في ذلك الزمن كانت تأخذ مسارين مهمين، الأول والأهم تربوي بامتياز، يصقل صفات الطالب ويدفعه للنضوج أسرع، لا بل تصبح ومن حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقك واعيا بطريقة مهمة، والشق الثاني كان أكاديميا تعليميا، فقد كان العلم له احترامه ومكانته، والمعلم كمهنة كانت عميدة المهن وصانعة الأجيال.
في جامعة دمشق وفي ذلك الزمن كانوا يصفونها بمصنع الرجال، ودرّسنا أساتذة كبار، وأسماؤهم ما تزال لامعة على لوحة الشرف الأكاديمي.
ففي كلية الحقوق كان يدرسنا معروف الدواليبي، وهو كان رئيسا للوزراء في نفس الوقت، وكان يأتي بموعد المحاضرة، ويعطينا نصابه التدريسي كاملا، دون تأخير أو استعجال أو تعطيل، وكان هو بنفسه يشرف على الامتحانات الخاصة بتخصصه، وكان هو من يوزع العلامات في ذات الوقت، لقد كان رجلا ذا هيبة واحترام.
ولم يكن باقي الاساتذة أقل هيبة أو علما من الدواليبي، فقد درسنا على أيدي اساتذة جامعيين، وكانوا وزراء عاملين، او وزراء سابقين وصاروا لاحقين أيضا.
في المحاضرات كانت المدرجات تمتلئ، فالطلبة جادون في البحث عن العلم، ويستشعرون صعوبة الحصول على المقعد الجامعي، الذي كان عزيزا في ذلك الوقت، وكانت كلف التعليم الجامعي على بساطتها، غير متوفرة لكثير من الطلبة، نتيجة ظروف أسرهم، وبطبيعة الحال هذا حال الجميع في ذلك الوقت.
فقد كان طلبة أردنيون قد جاءوا معي من الكرك، أو عرفتهم خلال نشأتي في جرش يطلبون مني إذا ما نادى المدرسون بأسماء الطلبة، من خلال 'كشف التفقد'، أن أجيب عنهم بـ'نعم'، وذلك ليس بسبب تهربهم من الدراسة، بل لأن ظروفهم لا تسمح لهم بالبقاء مطولا في دمشق بسبب الظروف الاقتصادية، وكانوا يعودون إلى أسرهم بعد بدء الفصل الجامعي، ثم يعودون عند عقد الامتحانات، دون أن يؤثر ذلك على تحصيلهم العلمي، لأنهم جادون في الدراسة حتى وإن تغيبوا عن الجامعة.
ومع ذلك كانت أعداد الطلبة في كلية الحقوق كبيرة جدا، وعند عقد امتحانات الكلية، تمتلئ مدرجات كل الكليات بأعداد الطلبة القادمين للامتحان، وكانت الكلية في مسعى منها للحد من عقدة الأعداد، تقوم بالفرز المبكر بين الطلبة على أسس علمية بحتة.
فلما كنا نتقدم لأول امتحان في الكلية في مساق الحقوق المدنية، كان الامتحان يبدأ بسؤال واحد، وكنا نرى كيف أن أعدادا من الطلبة بعد قراءة السؤال، يحملون أوراقهم ويخرجون من قاعات الامتحان، كإعلان منهم بأنهم غادروا كلية الحقوق، للبحث عن مجال علمي آخر يستطيعون الاستمرار فيه.
وكان المشهد يتكرر مع السؤال الثاني، حيث يخرج مع كل سؤال أعداد كبيرة من الطلبة، فيخرج مثلا 300 طالب في الجولة الأولى، ويلحقهم النصف في الجولة الثانية، وإذ بكلية الحقوق استقرت على أكثر من 100 طالب وطالبة فقط.
وكانت الأسئلة تعتبر 'الفلتر' الذي يصنف الطلبة، بين مُجد ومجتهد، ويتجاوز كل الصعوبات، وطالب لم يستطع هضم دراسة الحقوق في جامعة دمشق.
لذلك كانت امتحانات القبول في الكلية العسكرية، تعقد بعد انتهاء امتحانات كلية الحقوق، ليتسنى للطلبة، الذين أخفقوا في الحقوق، إكمال دراستهم بالكلية العسكرية إن رغبوا، وكان من مزايا الكلية العسكرية للطلبة السوريين هي أن طلبتها يرتدون الزي العسكري، ولما يزوروننا في جامعة دمشق، كنت أشعر وغيري من الطلبة بمشاعر الغبطة أمام لباسهم العسكري الجميل وهندامهم الأنيق.
*في رحلتك من الكرك إلى دمشق، وأزمة قبولك الجامعي، والأحداث الشخصية بين كل ذلك؛ كانت الساحة تستعر بأحداث جسام، وكانت الحرب بدأت مع الإسرائيليين، وذيول النكبة كانت تحاصر الجميع؟
-صحيح؛ لقد كانت النكبة تعبئ المشاعر بطريقة سلبية في المناطق التي شهدت استقبال افواج اللاجئين الفلسطينيين أولا، وفي المناطق التي كانت الأحزاب السياسية فاعلة فيها.
في الكرك مثلا، وقبل النكبة بعام، أي في العام 1947، كان هناك حضور بسيط لحزب البعث وحزب الإخوان المسلمين، وكانت لهما مكاتب سياسية، في حين أن جل نشاطاتهم اجتماعية تستقطب من خلالها الشباب، في ذلك الوقت لم يكن عندي أنا شخصيا أي ميول سياسية تقربني من أي طرف منهما.
لكن في سورية، فقد كان حزب البعث قويا، وكان الإخوان المسلمون لهم نوابهم في المجلس التشريعي، كما كان هناك القوميون السوريون ولهم حزبهم القوي، وكان لكل هؤلاء نشاطاتهم السياسية الكثيرة، وكان من السهل على أي شاب أن يتفاعل مع هذا المشهد، وأن يأخذ طرفا من أطراف المعادلة السياسية الفاعلة وينحاز له.
في ذلك الوقت كانت سورية تحت الحكم العسكري، أديب الشيشكلي كان حاكما عسكريا، ولا شك بأن الحكم العسكري كان مكروها من الأحزاب السياسية، ولذلك سعى الشيشكلي لتأسيس حزب لنظامه، ومن هناك انضم إلى حزبه عدد كبير من طلبة الجامعة، وكان الطلبة المنتمون لحزبه يواجهون بمعارضة زملاء لهم من قوى حزبية مناهضة للحكم العسكري.
المظاهرات كانت تخرج من جامعة دمشق، وقطعا الطلبة هم وقود المعارك السياسية الطاحنة بين الأحزاب، وكانوا يقاتلون أمام انتماءاتهم الحزبية، ويواجهون كل الأخطار.
أنا شاركت في المظاهرات، وقدت بعضها، وتم إلقاء القبض عليّ في إحدى المرات، وكان أغلب المعتقلين من أنصار اليساريين، ونجحت من الإفلات وهربت بعدها إلى الكرك، وعدت إلى الجامعة بعد أن تأكدت من عودة الهدوء وإطلاق سراح المعتقلين.

(الغد)
التعليقات

1) تعليق بواسطة :
25-01-2015 08:44 AM

دولة السيد مضر بدران رئيس الوزراء الأسبق له دور هام زمن الراحل الكبير الحسين بن طلال وشكرا لموقع كل الأردن بنشر هذه المعلومات لانها تفيد كل من يهتم بالأردن وتاريخه .

2) تعليق بواسطة :
25-01-2015 10:31 AM

هذا الشخص قام بدور بشع اثناء استلامه موقعه الذي لا اعاده الله على الشعب الاردني .... ايام سوداء تم من خلالها تدمير الاقتصاد الاردني وخاصه الزراعي منه حيث وضع كبار مزارعيه ووجهاء العشائر في السجون لاغراض دفينه في نفسه وتم تحويلهم الى المحاكم العرفيه بتهم باطله اثبتت براءتها محكمة العدل العليا بعد اعادة المحاكمه لهم هذا الرجل هو الذي دمر القطاع الزراعي في الاردن .. هذا الشخص ملفه عند رب العالمين لما اقترفت يداه من ظلم وتجبر وتسلط على الشعب الاردني ... هذه حقوق للناس ستبقى في عنقه ليوم الحساب

3) تعليق بواسطة :
25-01-2015 11:31 AM

رحلة هذا الرجل صعبة مثل بقية الاردنين كل الناس كانت مثل بعض وعلى الرغم ان هذا الرجل احلنى على التقاعد بسن الاربعين وهذ الظلم بعينة لان هذا السن هو سن العطاء كما قالها الحسن طيب اللة ثراة بمجلس الامن والغريب بالامر ان عائة مكون من خمسة اشخاص اثنان منهم روساء وزارات واللة من وراء القصد

4) تعليق بواسطة :
25-01-2015 11:57 AM

نريد عودة ايام وصفي التل

5) تعليق بواسطة :
25-01-2015 06:28 PM

خلوا النسور او رجعوا عون الخصاونة ليكون أحسن

الوضع ممل وما في أمل للتغيير طوال ما هي الأسماء عّم بيصير الها اعادة تدوير
خلي الناس تتقاعد
يعطيه العافية بدران ما قصر بحياته وان الاوان للتقاعد في بيته

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012