أضف إلى المفضلة
الجمعة , 29 آذار/مارس 2024
الجمعة , 29 آذار/مارس 2024


عملية الكرك وإدارة الأزمات .. قراءة متعمقة موجعة !

بقلم : د. علي المستريحي
19-12-2016 03:10 PM
الآن وقد انتهت عملية الكرك، علينا أن نكون أكثر صدقا مع أنفسنا ونبتعد عن ذلك السلوك الرديئ المتمثل بطريقة النعامة 'بدسّ رأسها بالرمال والجسم مفضوح'، وهي الطريقة التي تنتهجها وتصر عليها اصرار الجاهلية قنوات اعلامنا الرسمي وعلى رأسها التلفزيون! فما حصل بالكرك يوم أمس، وإربد والبقعة والرقبان سابقا، يحتاج من الحكومة، ومنا أيضا، وقفة تأمل كبيرة متعمقة، ولو كانت مرة علقمية .. وإلا سنبقى ندور بنفس الدائرة ولن نتقدم شبرا واحدا !

فابتداءا، يبدو من الواضح جليا أن خيطا واحدا يتمثل بجملة من الثغرات الأمنية الواضحة يجمع معظم أحداث الارهاب (والأزمات الأخرى بأنواعها) التي عصفت بنا خلال السنتين الماضيتين، خاصة بجانب الوقاية والاستعداد والحذر. وفي الوقت الذي نشفق فيه على حال أفراد قواتنا الأمنية أنفسهم، والذين لا حول لهم غير اطاعة الأمر، ونقول فليكن الله بعونهم، ولكنهم هم وأهلهم والوطن عامة من يدفع الثمن كأبطال لهذه الدراما التراجيدية المؤلمة المتكررة، فالمشكلة بتقديرنا تتعلق بالأساس بادارة الأمن والمنظومة الأمنية نفسها، والتي هي جزء من ادارات الدولة والتي، على ما يبدو، وأرجو صادقا أن أكون مخطئا، بدأ يصيبها الوهن مثلها مثل الكثير من مؤسسات الدولة التي عبثت بها أيادي الفساد والمحسوبية والواسطة والشللية وانهيار منظومة التربية والتعليم الرافد لمؤسساتنا .. كلام موجع مؤلم عن جهاز كان دوما محل أملنا وفخرنا واعتزازنا، ولكني أخشى أن يكون الحقيقة المرة !

ففي عملية الكرك الأخيرة، من غير المعقول والمسموح به اطلاقا أن تنفذ ذخيرة أفراد القوة الأمنية أثناء العملية وتنتظر ساعات لوصولها (كما سمعنا من أكثر من شاهد عيان ومعايش للأحداث) أو أن يواجه الشرطي أو الدركي الارهابيين بمسدس (كما شاهدنا بالصوت والصورة) .. وهل يعقل أن تحصل بداية العملية بالقطرانة ويستطيع المجرمون الافلات وتخطي ثلاث دوريات ثابتة متتالية للشرطة بامتداد الطريق للوصول لقلعة الكرك (بحدود 40 كلم) ليتحصنوا فيها (كما سمعنا من أحد وزراء الداخلية السابقين) برحلة استغرقت أكثر من نصف ساعة وفي ظل وسائل الاتصال التكنولوجية المتطورة والتي يفترض أن تتوفر لدى جهاز الأمن؟ أليس من المفترض بمثل هذه العمليات أن يفرض طوقا أمنيا على مكان تحصين الارهابيين كما حصل 'بمروّعة' اربد؟ هذه فقط أمثلة لبعض الثغرات من موقع التنفيذ، وهناك غيرها الكثير .. هذه ليست المرة الأولى. ما حصل بنقطة البقعة والرقبان وإربد جميعها أيضا يعكس جملة من مثل هذه الثغرات الأمنية التي أشرنا إليها .. وكل هذه الأسئلة برسم الاجابة .. أسئلة لا ينفع معها درس الرأس بالرمال .. أسئلة أصبحت بديهية للطفل الصغير قبل العاقل الكبير.

ومع تأكيدنا لأهمية الاجابة عن كل هذه الأسئلة، إلا أنه لا يمكننا أن نعتبر أن هذا كله هو جذر المشكلة، بل يندرج تحت نتائجها .. فالمشكلة أكبر من هذا، وتتعلق بادراة الأمن وبالسياسات الحكومية الفاشلة وبفساد الكثير من الرؤوس التي حكمت (ولا زالت) البلد، معظمها مستهلكة ومنتهية الصلاحية ومع ذلك لا زالت كظواهر كونية قدرية تتكرر recycled رغم هريانها !!

إلا أن هناك قراءات أخرى أكثر تعمقا لما واجهناه من أحداث ارهابية جميعها ! فالمشكلة أننا لم نعتد من الحكومة أن تعود إلينا بنشر نتائج كل عملية ارهابية بعد انتهاء التحقيق فيها. ولنفترض ابتداءا أن ذلك يعود لدواع أمنية .. يبدو هذا حسنا ولا بأس فيه، ولكن ألا يفترض الاستفادة من هذا المسلسل من التجربة تلو التجربة للافادة منها لأحداث مستقبلية بما يعرف بالتعلم التنظيمي Organizational Learning؟ من الواضح أن الاجابة هي: 'لا' !! وإلا لماذا يتكرر المشهد وبنفس الثغرات تقريبا مرة تلو مرة؟!

كل هذا يقودنا لاسقاط كل ما نعرفه من أدبيات ادارة الأزمات Crisis Management التي نعلمها لطلبتنا والتي للأسف لا نجد أي تطبيق واضح لها في 'أزمة الكرك' والأزمات السابقة. ما نعلمه تمام المعرفة أن هناك مركزا متخصصا لدينا في الأردن لادارة الأزمات والتعامل معها، خاصة الأمنية منها، تم تجهيزه بامكانيات هائلة مادية ومالية وبشرية كلفت الميزانية المرهقة أصلا الملايين .. أين هو هذا المركز وأين آثار عمله في ظل جميع الأزمات التي واجهناها ابتداءا من السيول والفيضانات والثلوج الى الأزمات الأمنية؟ ما نعرفه من الأدب الاداري النظري حول ادارة الأزمات لا نجد له تطبيقا يذكر، والدليل على ذلك التخبط الواضح في ادارة الأزمة وسوء التنظيم وضعف التنسيق بين الأجهزة المختلفة وعدم التطبيق الفعلي للخطط المرحلية والاستراتيجية التي يفترض أنها موضوعة أصلا لادارة الأزمة .. ومع أن كل هذا يمثل فقط ألف باء ادارة الأزمات، إلا أننا لا نلمس أي أثر له على واقع أزماتنا عندما تحدث .. فادارة الأزمة الفاعلة تمر بمراحل، تبدأ بمرحلة اكتشاف اشارات الانذار signal detection، بعدها مرحلة الاستعداد والوقاية preparation / prevention، تلحقها مرحلة ادارة الأحداث على الأرض، مرورا بمرحلة احتواء الأضرار أو الحد منها damage limitation ، تتبعها مرحلة استعادة النشاط recovery وتنتهي بالتعلّم من التجربة learning .. وما نعرفه أيضا أن هناك العديد من استراتيجيات ادارة الأزمة منها تفريغ الأزمة أو عزلها أو احتوائها أو خنقها أو كبتها، وفي ظروف محددة تصعيدها أو انكارها. والسؤال الكبير هنا: أين نحن من كل هذه المراحل من ادارة الأزمات جميعها التي عصفت بنا، وما الذي تم فعلا تطبيقه من استراتيجياتها ؟

ومن الملفت والأكثر غرابة بالتعامل مع 'أزمة الكرك' الأخيرة، وكغيرها من الأزمات التي مرت، أن مستوى أداء اعلامنا الرسمي، وخاصة قناة تلفزيوننا الرسمي المبجل، والتي تموّل جميعا من عرق الكادحين من دافعي الضرائب، كان كل مرة في أسوأ حالاته. فمن الغريب جدا أن يدعو اعلامنا الرسمي لضرورة استقاء الخبر من مصادر الرسمية في ظل صمت المسؤولين وغيابهم وتغيبهم أو هروبهم وتهربهم، وفي الوقت الذي فيه تبث قناة التلفزيون الرسمية برنامجا عن تكاثر الجراد بجزر المالديف (أو فوائد الميرمية!)، مكتفية بأفضل حالاتها بشريط اخباري يتضمن جملة واحدة تدور بالساعات دون كلل أو ملل تعتريه أخطاءا املائية وقواعدية بالجملة !! الأمر الذي أصبح يصفها البعض تندرا وغيرة وحرقة بـ 'قناة الميرمية'! هذا هو حال القناة الآن بعد أن أنتجت يوما اعلاميين احترافيين انتشروا كبذور الشيح والدحنون بكل بلاد العرب ! ثم يأتي مسؤولا ليطلب من الناس توخي الخبر الصادق من مصادره الرسمية، في الوقت الذي تنقل فيه لساعات قنوات أخرى تبعد آلاف الأميال الحدث بالصوت والصورة ومن واقع الحدث ومن قلب القلعة نفسها ! وفي غمرة ثورة تكنولوجيا الاتصالات والتي أصبح كل مواطن فيها صحفيا يمتلك التقنية والأدوات والقنوات التي تبث بالتو واللحظة الحدث كما يقع. ترى، أين يعيش هذا المسؤول ومن أين أتى؟ هل كان مع ثلة أهل الكهف وقد أعدناه للحياة بعد نفض التراب عنه؟ والسؤال الكبير هنا: كيف وصلنا لهذه الحال؟ وهل نضب بطن النشمية من انتاج غير أهل الكهف؟!

نافلة القول أن الواجب يفرض علينا جميعا مسؤولية أخلاقية تجاه وطننا وأجيالنا القادمة أن نقف وقفة تأمل صادقة مع النفس، نستفيد من تراكم التجربة لما فيه خير الأردن والحفاظ على بقائهآمنا للعيش لنا وللأجيال القادمة من بعدنا. فالأردن والله لا ينقصه الشرفاء من الرجال، إنما ينقصه أن يكون من بموقع المسؤولية من الشرفاء .. الأردنيون شعب طيب متسامح، عزيز وكريم، لا يرضى الذل ولا الهوان، فلنحافظ عليه، فإنه يستحق. فإن فقدناه فقدنا كل معنى للحياة .. حمى الله الأردن بلد التين والزيتون وتغمد الشهداء بواسع رحمته .. لا نامت أعين الجبناء .. والله من وراء القصد.

د. علي المستريحي


التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012