29-11-2010 05:39 AM
كل الاردن -
خالد الكساسبه
نكتب عن وصفي فيقولوا : وما نفع الكلمات ، ندعوهم لغرس شتلة في غابته او وضع وردة على ضريحه فيردون : وما نفع الافعال ، نصرخ : ترحموا عليه ، فيرموا كلماتهم في وجوهنا : وما نفع ( اللطميات)؟ يتشدق البعض باننا لا نفعل شيئا ل (وصفي) سوى الكلام ، هؤلاء انفسهم ذهبوا الى الاحتفالية الرسمية بوصفي في المركز الثقافي ليستمتعوا بمقابلة اصحاب الكراسي لكنهم لم يكلفوا انفسهم بالذهاب لزرع شتلة في غابته ،الكثيرون لم يحضروا اي من النشاطين ، شكرا لكل الذين ذهبوا الى غابة وصفي ، شكرا للذين لمسوا التراب الذي تشرف بيدي وصفي ، وشكرا للمتشدقين.
هذا العام 2010 صدرت الارادة الشعبية، بتكريس وصفي رئيس وزراء ابدي للاردن و (زعيم) متوج في قلوبهم رغم كل عمليات التهميش التي تقوم بها الدولة لوصفي وعدم اكتراثها بذكراه وهذا بدا واضحا في اقتصار احياء ذكرى استشهاده على جهود القطاع الخاص.
اليوم في الذكرى التاسعة والثلاثون لاستشهاد وصفي تتعالى من كافة الاتجاهات في الاردن صيحات الثأر والانتقام ولكن لو ان وصفي كان بيننا فانه لم يكن ليوافق على ذلك بل لدعا الى العفو والمسامحة ، ان اعظم تكريم واحياء لوصفي يتم عبر الاخلاص لمبادئه الداعية الى دعم العمل الفدائي والنضالي للشعب الفلسطيني من اجل اقامة دولته الحرة المستقلة لان في هذا رفع للظلم عن هذا الشعب الذي يعاني منذ اكثر من ستين عاما اولا، وكذلك حماية للاردن من المشروع الاسرائيلي الامريكي بتحويل الاردن الى وطن بديل وهو مشروع يقوم به للاسف ناس من بين ظهرانينا ، بينهم اردنيين وبينهم من يدعون انهم اردنيين.
وصفي التل بالنسبة للاردني هو واحد من بين اربعة خيارات او بعضها او كلها ، الاول يعشقه لانه كان نزيها زاهدا مترفعا عن التكسب من المنصب ومحاربا شرسا للفساد ، والثاني يحبه لانه كان مثلهم اردنيا بسيطا فلاحا حراثا يعشق الارض والزراعة ، والثالث يعشقه لانه حمى البلد في مواجهة خروج الفصائل الفدائية الفلسطينية عن خط النضال واتجاهها نحو المحاولة السيطرة على الاردن وان كنت اؤمن ان هدفهم من السيطرة على الاردن لم يكن احتلاله بل اطلاق مساحات الحرية امام كوادرهم للقيام بعمليات مسلحة ضد الاسرائيليين انطلاقا من الاردن وهو الامر الذي لم يكن يعارضه وصفي.
اخيرا هناك طرف يعشق وصفي لانه كان مختلفا عن كل رؤساء الوزراء في الاردن لانه كان سيد قراره ، يختلف عنهم انه كان لا مجرد منفذ للقرار بل ومشارك فيه ايضا .
معظم الاردنيين يعشقون وصفي لدوره في ايلول ومعظم الفلسطينيين يكرهونه لدوره في ايلول ، ان عملية الربط الخاطئ وان كان ممنهجا بين وصفي وايلول ولاسيما ما حدث في احراش جرش ادى الى انقشاع في البصر والبصيرة لدى الطرفين لدرجة ان كثير من الاردنيين من الجيل الجديد يعتقدون ان وصفي استشهد عام 1970 وليس عام 1971 ولدرجة جعلت الجميع يطلق على ذكرى هذا العام الذكرى الاربعون مع انها الذكرى التاسعة والثلاثون ولدرجة تجعل كل فلسطيني يشعر بالقشعريرة عند ذكراسم وصفي في العوبة مارستها الانظمة في محاولى لرسم مخطط قلب (استعبادي ) وهي بديلي الموضوعي ل (الامبريالي) للشعوب .
لا شك ان اغتيال وصفي بايدي فلسطينية وتسهيلات مصرية وتساهل اردني اضفى عليه هالة خاصة بالنسبة للاردنيين لدرجة يبدو فيها ان وصفي رجل قادم من عالم اسطوري وان قيام وصفي جديد بالنسبة للكثيرين اضحى امرا مستحيلا يفوق في صعوبته العثور على العنقاء او ظهور المسيح المنتظر .
قبل شهرين زرت ضريح وصفي برفقة الوطنيين الاردنيين وهي الزيارة التي لم تحظى برضى الدولة فاوحت لممثلها الديني ليصدر فتوى بتحريم القاء خطابات سياسية عند اضرحة الموتى ، ولابواقها الاعلامية لمهاجمتنا ، عدد الزوار لم يكن كبيرا و لو وصل رقم من قاموا بزيارة الضريح لاعداد كبيرة لما سمحت لنا الدولة بتنفيذ الزيارة .
خلال الزيارة تحدثت منفردا مع احد اقرباء وصفي الذي كشف لي الكثير من الاسرار عن عمليات التهميش التي تستهدف وصفي و عن الارتداد المتعمد عن فكر وصفي ونهجه من اشخاص يفترض انهم هم اول من يفتخر بوصفي ويسير على خطاه، ان اكثر ما صدمني في حديثي مع هذا الشخص هو الاسرار التي كشفها لي حول ملابسات سفره لمصر وطبيعة التحقيقات التي اعقبت اغتياله وهي الاسرار التي لن اتحدث عنها هنا لا لسبب الا لانني لم اخذ الاذن منه لنشرها ولسبب اخر انني شعرت بالماء الموجود في فمه ،نظرت في وجهه واستنتجت الكثير .
انه لمن المؤسف ان بعض اقرباء وصفي التل لينظرون له على انه مجرد رئيس وزراء من العائلة فقط وليس رمزا لكل الاردنيين بل ان بعضهم يسعى للتنكر للتاريخ المشرف له واعتباره فقط مجرد رجل دولة وبعضهم يتنصل من استذكاره كهامة اردنية شامخة بل يعتقدون ان اسطرة وصفي قد حرمت ابناء العائلة من التقدم في المناصب العليا في الدولة ولاكشف المزيد فقد قام بعضهم ببيع اجزاء كبيرة من حصتهم بما ورثوه من مزرعته في الكمالية وهي المزرعة التي لا تحظى بالرعاية المطلوبة من الدولة وكم آلمني عندما شهدت الاشجار التي زرعها وصفي بيديه على وشك الموت عطشا ، اما الحرائق المستمرة في غابة وصفي فانني اجزم بانها مؤامرة حكمية وحكومية ديجاتيلية وكاباتيلية لتسهيل عملية بيع الاراضي الحرجية للقطاع الخاص ولا علاقة للامر باي توجهات انتقامية فلسطينية من وصفي .
لقد تعامل كل من كتب عن وصفي هذا العام باستثناء ما كتبه طارق التل باستخدام اللطميات والكربلائيات والبكاء على الحسن والحسين ،لا نريد لذكرى وصفي ان تكون احتفالات لطمية مقدسة ، ولا دعوات مهلهلية للثأر بل اعادة لفكره المؤيد للنضال الفلسطيني ولنهجه بدولة خالية من اسلحة الفساد الشامل وحبه للارض والزراعة ولعل ما قام به بعض الناشطين من زراعة اشتال في مزرعته لهو خطوة كبيرة رغم رمزيتها في هذا الاتجاه .
الى ما قبل عامين فقط لم يعترف ابو داوود بعلاقته باغتيال وصفي ولم يشر الى ذلك في في كتابه (من القدس الى ميونخ ) الذي نشره عام 1999 لاسباب أملت عليه عدم الكشف عن ذلك وقت اصداره الكتاب لعل أبرزها هو عدم إحراج ياسرعرفات الذي كان لا زال على قيد الحياة وقت نشر الكتاب لكنه عاد واعترف بعلاقته الكاملة بالعملية في برنامج الجزيرة (حكاية ثورة ) الذي بث عام 2008، بل وانه أكد على دور ابو اياد (صلاح خلف) وألمح بشكل مباشر تقريبا لعلاقة ابو عمار (ياسر عرفات) بها إلا إنه في الوقت ذاته إعترف بأن عدنان ابو عودة أخبره أن وصفي كان ينسق لاعادة العمل الفدائي في الاردن قبل اغتياله ، ورغم هذا لم يبدي ابو داوود ندمه على اغتيال وصفي .
لعل البعض قد يصدم عندما اقول أن منظمة ايلول الاسود ليست منظمة ارهابية بل هي منظمة فدائية ، ولكنها قامت بخطأ بل خطيئة كبرى عندما قتلت وصفي التل في عملية ثأرية انتقامية مزقت ما تبقى من تعاطف اردني شعبي مع الثورة الفلسطينية آنذاك ولا زال البعض الى اليوم غير متعاطف بسبب استشهاد بطلهم الاسطوري رغم ان قادة ايلول الاسود ادعوا ان قتل وصفي لم يكن ثأرا بل هو محاولة لانعاش العمل الفدائي بعد الإحباط الذي اصابها في اعقاب طرد الفدائيين من الاردن ، وهنا اؤكد على انه لا يجوز توصيف الاخر بما يتماشى فقط مع اهوائنا ، وقد فعلنا نحن الاردنيين هذا الامر من قبل وهنا بالضرورة اتحدث عن ابو مصعب الزرقاوي الذي ظل بالنسبة للاردنيين مجاهدا ومناضلا قبل ان يحولوه في ليلة واحدة الى ارهابي بعد قيامه بتفجيرات عمان ، الحقيقة لا يمكن تجزئتها ، غاضبون من منظمة ايلول الاسود ، نعم ، لكننا لا يجوز ان ننكر نضالهم من اجل فلسطين ،فقط ، لانهم قتلوا وصفي ، اعرف ان الكثيرين سيهاجمون طرحي هذا ولكن الحقيقة عندي اهم من العواطف ، والموضوعية دائما تتطلب ان نطرح وجهة نظرنا بشجاعة لا ان نطرحها بما يجلب لنا الرضى..
اليوم اطرح فكرة اعرف انها قد تواجه بمعارضة من الكثيرين وهي فكرة تناقشت فيها خلال الاشهر الماضية مع عدد من المثقفين الاردنيين والفلسطينييين ، فكرة ستكون بلسما لجرح استمر اربعين عاما و لكراهية امتدت ل اربعين عاما ،ول اقليمية مشت في اربعينيتها ،ول عبث اربعيني ،ول لا ثقة اربعينية: اعتذار اردني وفلسطيني متبادل عما حدث في ايلول وتوضيح مشترك لما حدث وطي ابدي لصفحة سوداء من تاريخ الوطن وتاريخ العمل الفدائي ، اعتذار من منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الاردني عما حدث والاعتراف بالمسؤولية واعتذار من الاردن عن ممارسات مبالغ بها ضد بعض الابرياء وبغير ذلك فان كابوس ايلول سيظل يلاحق الطرفين للابد ،ان انت بقيت مكانك ولم تتقدم خطوة باتجاهي فاننا لن نلتقي ابدا ، اللقاء بحاجة لشجاعة ولبعض التنازلات ايضا ، وهنا لن اكرر على اسماعكم ما تعرفونه جميعا : لا رابح في الحرب ، الكل خاسرين .
ان دفن الرؤوس في الرمال وعدم تسمية الاشياء باسمها هو ما يؤدي للفتنة ،عندما ندير ظهورنا للواقع وللحقيقة فهذا هو المستنقع الآمن والبيئة الحافظة الذي تنمو فيه الفتنة ، المصارحة والوضوح ليس فتنة بل هو وأد لها قبل ان تتمدد مثل ورم سرطاني في اجسادنا ، الحديث عن احداث ايلول ليس نكأ للجراح ولا استذكارا للضغينة بل هو لاجل تصفية القلوب بالكامل وطي الصفحة للابد والمصارحة هي طريق الصفاء .
عندما نذكر العظماء فإن الأقزام تغضب و تزداد وضاعةً ،. نقول لهم إنه لعارٌ و خزيٌ عليهم عندما يروا كيف أن فلاحاً أُردنياً ما زال حيّاً في قلوب ملايين الأردنيين رغم غيابه منذ 40 عاماً بينما نهاجم رجال الدولة اليوم ليل نهار على ما أوصلونا إليه من دمار و فقرٍ و ضياع ،كل الشعوب لها رموزها التي تلهم الأجيال و تستنهضها و تبث فيها الأمل بأنه لا بد من مقاومة الخنوع و السقوط و أن الوطن أمانه في أعناق الجميع و أنه لا بد من الذود عنه بكل الأساليب .
قتل وصفي قبل تسع وثلاثون عاما بايدي فلسطينية الا انه منذ ذلك اليوم وحتى الآن يقتل يوميا بايدي الدولة الاردنية .
في الرابعة من مساء يوم احد خريفي وفي مثل هذا اليوم حمل وصفي روحه على كفيه ومضى الى العالم الاخر ، رحلت روحه ومضى جسده لكنه حتى الان ورغم مضي تسع وثلاثون حزنا وفقدا لازال يتربع على العرش عرش قلوب الاردنيين .
سلام عليك يا وصفي يوم تولد ويوم تموت ويوم تبقى في قلوبنا للابد حيا وحمى الله الاردن وحرر الله فلسطين ..
يا وصفي ، احتفالاتهم وعشائهم يمكث ساعتين وأنت مكثت للأبد، اجتماعاتهم تبقى لساعة وتضحياتك ظلت طوال الحياة ، حياتهم مرت سريعة وحياتك ستلازم حياتنا الى النهاية ، لهم اولاد يحكمون ولك الذكرى ، لهم ابناء يورثون ولك قلوبنا تتورث .
khaledkasasbeh@yahoo.com