أضف إلى المفضلة
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024


موسى العدوان يستذكر : من صور البطولة على ساحة الأرض المقدسة – 5

بقلم : موسى العدوان
20-05-2016 11:16 AM

الهجوم على بناية النوتردام
موسى العدوان
' مع مضي الزمن ازددت اقتناعا بأهمية العمل الذي أقوم به : هؤلاء الرجال الذين واجهوا الموت في سبيل الوطن، ماذا قدّم الوطن لهم بالمقابل ؟ وتكشّفت لي جراح وأوجاع نفسية، كثيرون كانوا يشعرون أن الوطن أهملهم ونسيهم، كثيرون ترددوا في التحدث إليّ، لاعتقادهم أن الوطن لم يعد يسأل عنهم ويهتّم بهم. والآن أراني أقول : ما أجدر هؤلاء الأبطال بمزيد من الاهتمام والعناية. هؤلاء الذين حافظوا على شرف الوطن في أيام الخطر، حينما كنت أنا وأمثالي بعيدين عن الخطر '.
' المؤرخ الأردني سليمان موسى '
* * *
بعد أن قامت الكتيبة الثانية بالهجوم على القدس الجديدة واحتلت حي الشيخ جراح، ثم وصلت طلائعها إلى باب العمود في صباح يوم 20 مايو 1948، أستمر القتال طيلة ذلك اليوم. وتحسبا لقيام اليهود بهجوم معاكس، استُدعيت الكتيبة الثالثة بقيادة الرائد الإنجليزي ( نيومن ) من نابلس يوم 21 مايو، وتمركزت في حي الشيخ جراح ، بعد أن تعرضت في طريق حركتها لهجمات يهودية من موقعي هداسا ومشيرم.
صدرت الأوامر للكتيبة الثالثة بالهجوم بسريتين في الأمام وسرية لاحقة لاحتلال هدفين رئيسيين : بناية النوتردام وهي عبارة عن قلعة ضخمة تتألف من عدة طوابق، تسيطر على باب العمود وحي المصرارة، وكُلّفت به السرية الثانية. وبناية بنك باركلس وتقع بجوار قلعة النوتردام وتسيطر على المنطقة من جهتي الغرب والشمال، وكُلّفت به السرية الرابعة، بينما كُلّفت السرية الثالثة بواجب الاحتياط كقوة لاحقة. ولغرض الإيجاز فإنني سآخذ جانبا من هجوم الكتيبة، وأركز على عملية الهجوم على بناية النوتردام.
تقدمت السرية الثانية التي يقودها الملازم عيد ادليم لاحتلال هدفها وهو بناية النوتردام، بين عمارات صغيرة وعبر أرض مكشوفة في مواجهة نيران كثيفة، من جنود العدو المتمركزين في الطوابق العليا لبناية النوتردام. فوقعت إصابات عديدة بين جنود السرية واستشهد قائد السرية وتبعه الملازم محمد نجيب. فتولى قيادة السرية الوكيل فليح ماطر، حيث ثبّت السرية في البنايات الصغيرة وأخذ يشاغل العدو من مواقعه دون أن يتابع الهجوم نظرا لشدة المقاومة.
انحرفت السرية الرابعة التي يقودها الملازم غازي الحربي عن هدفها الرئيسي بناية بنك باركلس، وعادت أخيرا إلى موقعها في باب العمود. فأسند إليها هجوم لاحق لاقتحام بناية النوتردام تعزيزا لهجوم السرية الثانية. وعندما وصلت إلى البنايات الصغيرة بجانب النوتردام، أرسل قائد السرية مجموعة من الجنود لفتح ثغرة في الأسلاك الشائكة، فنفذوا ذلك تحت ستار من نيران السرية.
وعند الفجر تمكن قائد السرية الرابعة من نسف الباب الرئيسي لباب النوتردام بمدفع ( بيات )، ودخل مع عدد من الجنود إلى الطابق الأرضي للبناية، بينما بقي القسم الأكبر من سريته في الساحة الخارجية، حيث منعتهم نيران العدو الكثيفة والقنابل اليدوية من اللحاق بقائدهم. وهكذا أصبح الموقف حرجا للغاية، فلم يكن قائد السرية قادرا على الصعود إلى الطوابق العليا، ولم يتمكن جنوده الموجودين في الساحة الخارجية من اللحاق به لدعم قوته.
في هذه الأثناء اتصل قائد السرية مع قائد الكتيبة، ليبلغه بأنه احتل الطابق الأرضي وأن جنوده يتمركزون حاليا في ساحة البناية غير قادرين على الانضمام إليه، وطلب منه إرسال تعزيزات له على وجه السرعة لإنجاز المهمة. إلا أن قائد الكتيبة أجابه بأن ليست لديه تعليمات لإرسال تعزيزات وأمره بالانسحاب من البناية. ولكن قائد السرية رفض الانسحاب، وتكررت أوامر قائد الكتيبة إليه بالانسحاب وهو يصرّ على الرفض.
وعند حلول الظلام أيقن قائد السرية أن لا فائدة من بقائه، فانسحب من بناية النوتردام إلى موقعه السابق الذي انطلق منه قبل الاقتحام، بعد أن فقدت سريته 80 مصابا بين شهيد وجريح، من بينهم معظم ضباط السرية. وإذا ما عرفنا أن مجموع ملاك السرية كان 120 جنديا يتضح بأنها قد فقدت ثلثي قوتها ولم تعد وحدة فعالة في القتال.
ورغم إلحاح جنود وضباط الكتيبة الثالثة بإعادة الكرة على النوتردام، إلا أن رئيس الأركان أمر بالكفّ عن ذلك، بعد أن هبط موجود الكتيبة إلى خمسمائة جندي، كان يتوجب عليهم الدفاع عن خط طويل أمام عدو يفوقهم عشرات المرات. ونتيجة لذلك تولد لدى قيادة الجيش اقتناع بأنها لا تملك قوات كافية، لشن مزيد من الحملات الهجومية داخل مدينة القدس.
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : هل كانت عملية النوتردام تستحق كل هذه التضحيات ولمدة ثلاثة أيام متواصلة ؟ صحيح أن احتلال النوتردام لم يكن سيؤمن للجيش الأردني احتلال مدينة القدس، ولكن هذه البناية كانت تسيطر على مواقعه في حي المصراره وباب العمود. ولذلك كان احتلالها أمرا في غاية الأهمية، ولكن باستخدام قوات أكبر مما كان متوفرا لديهم. فكان نقص القوات سببا رئيسيا في الإخفاق باحتلال بناية النوتردام، بعد ثلاثة أيام من القتال العنيف والخسائر الكبيرة.
يقول الفريق كلوب في كتابه ( جندي مع العرب ) وأقتبس :
' اضطر جنود المشاة إلى الانسحاب من بناية النوتردام بعد أن أصبحوا مطوقين تقريبا. كان عدد القتلى والجرحى قد ارتفع إلى حد خطير، فمن مجموع مأتي رجل بدأوا الهجوم، كان النصف قد لاقوا حتفهم أو أصيبوا بجراح عميقة. كالعادة كان الذين يصابون بجراح خفيفة يتكتمون عليها ويبقون في خط النار. السرية الرابعة فقدت جميع الضباط وضباط الصف باستثناء واحد. لقد خاض ضباط الكتيبة الثالثة وأفرادها معركة القتال بشجاعة فائقة وإقدام عظيم طوال ثلاثة أيام. حاربوا بتصميم واندفاع على الرغم من العطش والعرق والجوع أحيانا '.

وأضاف كلوب قائلا : ' في اليوم التالي زرت أفراد الكتيبة، فجاءني غازي الحربي الذي خاض معارك القتال ثلاثين عاما في شبه الجزيرة العربية، وانهالت الدموع على وجهه المتغضن الذي لوحته الشمس، وهو يرجوني أن أوافق على شن هجوم آخر على النوتردام. قال بلهجة الواثق ( سنحتلها هذه المرة يا أبو فارس ) ولكنني لم أوافق. كان عدد رجال الكتيبة الثالثة قد هبط الآن إلى 500 رجل فقط، ينتشرون بين الشوارع والمنازل ولا يوجد وراءهم جندي واحد من القدس إلى عمان.
في وضع كهذا لم يكن بمقدورنا الإقدام على مغامرات. لم يكن لدينا احتياط ولم يكن عتادنا يكفي لأكثر من إسبوعي قتال. لقد أنقذنا المدينة القديمة وثبتنا خط دفاعنا ومنعنا اليهود من الاستيلاء على المدينة بكاملها . . . إننا لا نستطيع أن نغامر بفقد جنودنا المدربين من أجل الاستيلاء على مبنى. وقلت لغازي: سوف نأخذ النوتردام فيما بعد، وأجاب غازي بهدوء إن شاء الله '. انتهى الاقتباس.
وبدورنا نحن الذين نقرأ عن بطولات أولئك الرجال بعد سبعين عاما من وقوعها، ماذا يمكننا أن نقدم لهم سوى الشكر والعرفان لما قدموه من تضحيات جليلة، وأن نخلّد ذكراهم، ونترحم على أرواح الشهداء الأبرار، داعين الله أن يسكنهم فسيح جناته.
التاريخ : 28 / 5 / 2016
المراجع :
- أيام لا تنسى / سليمان موسى.
- حروبنا مع إسرائيل / صادق الشرع.
- تاريخ الأردن في القرن العشرين / منيب الماضي وسليمان موسى.

التعليقات
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012