أضف إلى المفضلة
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024


قاسم حسین صالح: حدث ھذا في بغداد

بقلم : قاسم صالح
23-10-2017 01:34 PM

أقامت السفارة الأمیركیة بالمنطقة الخضراء حفلا حضره سفیرا بریطانیا وفرنسا ووزیر خارجیة إسرائیل وممثلون عن الاتحاد الأوروبي وعدد من كبار المسؤولین الأجانب والعرب ومن دول الجوار، وكانت المناسبة توزیع الجوائز على الذین ساھموا في تقسیم العراق.
وكما یجري في تصنیف الأوسكار حیث ھنالك جوائز بطولة وأخرى بطولة مساعدة، فقد كانت ھنالك جوائز ضخمة وأخرى أقل ضخامة وفقا لمعاییر وضعتھا لجنة متخصصة في الاستخبارات الأمیركیة والبنتاغون، تضم أیضا خبراء بریطانیین وإسرائیلیین. ولوحظ وجود غرفة زجاجیة مظللة قالت لنا (العصفورة) أنھا تضم وجوھا سیاسیة عراقیة معروفة بأزیاء مختلفة بینھم أفندیة ومعممون ولابسو یشماغات وغتر، ووجوھا أخرى غیر معروفة بینھم شباب من الجنسین.
افتتح الحفل السفیر الأمیركي بكلمة جاء فیھا: إن فكرة تقسیم العراق كانت حاضرة في عقل الإدارة الأمیركیة منذ نصف قرن. وبناءا على نصیحة من خبراء سیكولوجیین فإنھا بدأت أولا بإشارات عابرة كي لا تثیر حفیظة معظم العرب ممن كانوا یعدّون العراق بوابتھم الشرقیة.
ّ ولأن العراقیین كانوا وقتھا موحدین ویشعرون بالاعتزاز والتباھي والافتخار بوطن یعدّونه مھد الحضارات الأولى في التاریخ، وأنھم كانوا قد جعلوه فعلا ”مقبرة للغزاة“ وعذرا لأنه صار الآن مقبرة لھم.
غیر أن عام 1990 شھد أول خطوة عملیة لتنفیذ الفكرة، بأن أوعزنا لسفیرتنا في العراق، التي قدمناھا فیما بعد قربانا لأمیركا، أن تلتقي بصدام وتعمل بتوجیھات خبرائنا علماء النفس الذین حللوا شخصیة صدام، فأوحت لھ بما فھمھ أن أمیركا لا تعارض إن دخل الكویت.
وكنا حبكنا سیناریو یستفز عقلیتھ العشائریة وشخصیتھ النرجسیة وولعھ بالتحدي والطموح اللامحدود، ففعلھا ودخل، وبدخولھ تحولت الفكرة إلى واقع على الأرض وموضوع على مائدة السیاسة، بعد أن نجحنا في تغییر مواقف العرب الجیران من بقاء العراق بوابتھم الشرقیة، إلى ّ الرغبة في تقسیمھ لیخلصوا من شر ّ ه. وبھذه المناسبة التاریخیة یتوجب علي أن أشیر إلى
ملاحظتین:
الأولى، لیس كل الفائزین بجائزة توزیع تقسیم العراق ھم من المتعاونین معنا، أو ”عملاء
أمیركا“ بلغة الآخرین، فبینھم من لیس متعاطفا معنا ومن یجاھر بعداوتھ لنا، ولكننا درسنا
شخصیة كل واحد منھم ونجحنا في وضعھ على السكة، واقتصرت مھمتنا بعدھا على دفعه
باتجاه تحقیق الھدف.
والثانیة، لیس كل الفائزین حاضرین الآن، فبینھم من لا نرید كشفھ لدور قیادي ینتظره.
وأضاف السفیر موضحا، إننا مدینون إلى الرئیس الأمیركي جورج بوش الابن الذي استطاع، بعد أن عرفنا كیف نشحنه، أن یحشد العالم ویشن ھجوما كاسحا كسر ظھر الدولة العراقیة وأطاح بمؤسساتھا العسكریة والاقتصادیة، وفرض حصارا اقتصادیا وعلمیا وثقافیا جعل معظم علماء ومفكري وعقلاء العراق یغادرونھ إلى بلدان منحتھم جنسیاتھا لیستقروا فیھا ویعیشوا بحریة وكرامة افتقدوھما في وطنھم، فیما الذین بقوا ھم غالبیة تعیش حالة البؤس والعجز. كنا نعلم أنھا ستولّد لدیھم الكره لواقع لا یطاق، یتحول لاشعوریا إلى كره للعراق، ویضمن لنا أنھم سینتخبون من سیعمل على تحقیق ھدفنا ونحن من فعلھ بریئون.
ولأننا نعرف أن العراقیین انفعالیون وعاطفیون، فقد أوعزنا إلى حاكمنا بول بریمر أن یتعاطف مع الشیعة، فیما أوعزنا إلى سفیرنا زلماي خلیل زاده أن یتعاطف مع السنة.. فكان أن منح الشیعة الحاكم بریمر لقب ”أبو حیدر“ فیما منح السنة سفیرنا زلماي لقب ”أبو عمر“، وكان منحھم ھذا قائما على سیكولوجیا الضحیة التي عاشھا الشیعة زمن الدكتاتوریة، ویعیشھا السنّة زمن الدیمقراطیة، وكان علینا أن نمضي أكثر ما دام الباب قد انفتح على التقسیم.
كان الأمر یحتاج إلى تصعید، ذلك أن خبراءنا السیكولوجیین أفادونا أن الشیعة والسنّة ینّحون جانبا ما بینھم من خصومات وعداوات، ویتوحدون أمام من یعدّونھ محتلا كما حصل یوم زار القائد العسكري البریطاني ”لجمن“ قبیل اندلاع ثورة العشرین، المرجع الدیني الشیرازي في ْ النجف وعرض علیھ أن یأتیھ بمفاتیح روضة الإمامی ّ ن في سامراء من السنة ویعطیھا للشیعة،ّ فرفض الشیرازي وعاد ”لجمن“ خائبا لیحرض الشیخ ”ضاري“ قائلا ”كیف تطیعون فتوى الشیرازي وھو مرجع للشیعة“؟ فأجاب الشیخ ضاري ”والشیرازي مرجعنا أیضا“.
كان علینا أن نُدخل طرفا ثالثا یتولى ھذه المھمة، وكان ھذا الطرف حاضرا، إذ أننا كنّا فتحنا حدود العراق حین دخلناه في 2003 وفسحنا المجال للإرھابیین في العالم بأن یتوجھوا إلیه، فجاءوا من كل البلدان بما فیھا أفغانستان ودول أخرى لا تخطر على بال مثل فرنسا وإیطالیا وألمانیا واسترالیا وھولندا.
ّ وحدث احتراب طائفي عنیف لسنتین حول التقسیم من فكرة سیاسیة وحالة اجتماعیة نفسیة، إلى حقیقة على الأرض، وبحصولھا أنھینا (الزرقاوي) الذي أتم المھمة.
ّ ولقد أفادنا خبراؤنا بعلم الاجتماع بنصیحة ذھبیة: علینا أن نوظف المعطیات الدیمغرافیة والتاریخیة للعراق، ونستحضر تجربة تفكیك الاتحاد السوفیاتي وتقسیم یوغسلافیا وتوظیفھما في جغرافیته البشریة لخلق أزمة سوسیولوجیة للعراقیین، وأردفوھا بنصیحة ماسیة: إذا أردتم السیطرة على مجتمع ما، علیكم باستھداف قیمھ الأخلاقیة.
ولقد وجدنا ضالتنا في أشخاص انتخبتھم جماھیر لا على معیار الكفاءة والنزاھة، بل الانتماء العشائري والطائفي والقومي. ولأنھم كانوا محرومین ولھم شراھة للثروة فإنھم بدأوا خطواتھم الأولى في الفساد المالي على وجل واستحیاء، ثم تشجعوا حین وجدوا أن وزراء ومسؤولین كبار سرقوا الملیارات وھربوا بھا إلى أمیركا وبریطانیا وھـم محمیـون. عندھا شاع الفساد وصار عند العراقیین شطارة بعد أن كانوا یعدّونھ خزیا، وبھ تمت خلخلة المنظومات القیمیة الأخلاقیة في المجتمع العراقي، لتكتمل عوامل التقسیم، سیاسیا واجتماعیا ونفسیا ولوجستیا، وإیصال العراقیین إلى الحالة التي أفادنا بھا خبراؤنا السیكولوجیون بأن نجعلھم یدركون أن العراق صار أشبھ بالباخرة (تایتنك)، وأنھم إن بقوا فیھا سیھلكون، ما یجعلھم في الأخیر یقبلون جمیعا بالتقسیم، وسارت الأمور بأكثر مما كنّا نتوقع كما تلاحظون.
وقبل أن نبدأ توزیع الجوائز التي سیشاركني فیھا وزیر خارجیة دولة إسرائیل والسفیر البریطاني وشخصیة أخرى سیعلن عنھا في حینھ، نود أن نشیر إلى أن المنفّذ الأكبر الذي وافق على إعلان اسمھ بالفوز ھو ”أبو بكر البغدادي“ الذي كنّا أعددناه نفسیا لھذه المھمة باعتقالنا لھ أربع سنوات خرج منھا مشحونا بروح الحقد ودافع الانتقام، بعد أن درسنا شخصیته مذ كان صبیا یلعب كرة القدم في شوارع مدینة ”الطوبجي“، إلى حصولھ على شھادة الدكتوراه من الجامعة الإسلامیة، وقد أدى المھمة بشكل یفوق التوقع.ّ السادة الوزراء والسفراء وممثلو من یعنیھم الأمر: إن إنھاء الروح التي توحد العراقیین بالانتماء إلى العراق، ھو الضمانة الأكیدة لیكتب التاریخ عندھا، كان ھنالك وطن اسمھ
العراق. ومع أننا مطمئنون إلى أن من صـاروا مؤثرین في العملیـة السیاسیة ساروا في طریق تبـادل التھم التي تباعد فیما بینھم، وأننا أعددنا من سیتعاونون معنا، لكنني لا أخفیكـم خشیتي من العراقیین. فحین دخلت قبل أیام صحبة مترجمي إلى كنیسة في الكرادة، رأیت امرأة بعباءة قد أشعلـت شمعـة ووقفت أمام السیدة العذراء، تتوسل إلیھا وھي تبكي ”مریمانھ.. بجاه أبو ّ الحسنین علیج.. ردیلي ابني“، وما زاد من خشیتي أنھا ختمت دعاءھا قائلة ”تعالوا قسموا قلبي ّ ولا تقسموا العراق“.


التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012