أضف إلى المفضلة
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024


ابو عرب.. خارطة بلا حدود ولا يهود

بقلم : بسام الياسين
28-05-2018 02:45 AM

كان ابو عرب يحب الله والناس واللغة العربية،حباً لا يشوبه شائبة…ولا تلطخ بياض صفحة مشاعره لطخة مهما كان لونها او دق حجمها حتى لو كانت بحجم راس دبوس…. حبه لوطنه تجلى في حبه للاطفال و الاشجار رمزا الحياة والمستقبل… حب تجاوز العشق الى حدود الافتتان بكل ما هو وطني و عروبي كان من عادة “ابو عرب” ان يملأ جيوبه بالحلوى. فاذا التقى طفلاً في احدى طرق البلدة الضيقة ، دس يده في جيبه وناوله قطعة منها ثم مسح براحة يده على رأسه بحنان ابوي …عاطفته الجياشة نحو الاطفال وملامحه الابوية كانتا من اسباب إنشدادهم اليه وتعلقهم به.
من باب التأدب كانوا ينادونه – عموه – احتراما وتبجيلاً. حاز على شعبية واسعة في البلدة الوادعة التي جاء اليها واستقر فيها من دون ان يسأله احد من اين اتى والى أي عائلة ينتمي…تديّنه الشديد….تواضعه الجم مع من يعرفه ومن لا يعرفه و تعامله مع الجميع بإعلى درجات الرقي الانساني، جعلت منها شخصية كارزمية جاذبة، جذبت اليه الناس على تنوع مشاربهم….رغم تباين اعمارهم،واختلاف آرائهم . ازدادوا اعجاباً به حينما غاب امام مسجد البلدة لعارض قاهر… فقام برفع آذان الفجر بصوت سلب الالباب.ازداد اعجابهم اكثر عندما أّمَ المصلين وقرأ بصوت رخيم تقشعر له الابدان آيات من القرآن الكريم،ولما وصل الى قوله تعالى : ـ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فُصلت آياته قراناً عربياً لقوم يعلمون *…اجهش في البكاء و اجهش معه المصلون خشوعاً وإيماناً.
عندما فرغ من الصلاة. تحلّق حوله الشباب، فأقترح احدهم ان يعطيهم درساً دينياً…وكانت المفآجاة ان ” ابو عرب” موسوعة فكرية،سياسية،ثقافية. حدثهم عن ازمات الامة المعاصرة بلغة جديدة غير تلك اللغة المحنطة التي كانوا يسمعونها من موظفي وزارة الاوقاف المؤطرة باطر صارمة لا يحيدون عنها كمبطلات الوضوء….إزالة الجنابة،النساء الكاسيات العاريات حتى في القضايا المصيرية.ازدادوا ثقة فيه عند تحليله الوضع الراهن،وكيف يجري تفتيت الامة كانها “حصوة” في كلية،خاصة ان عملية التفتيت تجري بايدي خونة….تارة بالليزر وتارة بالجراحة.
دهشة الشباب تضاعفت حين قال ابو عرب بالفم الملآن :ـ ان بعض الدول العربية سجينة ارادات سياسية مزيفة دفعتها الى التشظى مثل كومة فخار ضربها زلزال عنيف،بينما بعضها الآخر يتساقط كالثمار المتعفنة.الاسوأ من هذه وتلك،تلك الغارقة بدماء اهلها ولم تمتد يد لانقاذها من الاشقاء كأن دم الاخوة صار ماءً.انها الديكتاتوريات العربية وقوى الشر المنبثقة عنها.الديكتاتور العربي حيوان سياسي منفلت من قفصه،متعطش لجز الرؤوس،قطع الارزاق،زج الناس بالزنازين.انه البلاء الذي حلَّ بالامة….لكن الله بالمرصاد …لن يفلت ظالم من قبضته وهو العادل المنتقم الجبار….{ و اذ تأّذنَّ ربك ليبعثن عليهم الى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب…..} صدق الله العظيم.
في احدى الجلسات استطرق ابو عرب برهة قصيرة، ظن الشباب كأن غفوة اخذته لكنه رفع راسه وقال بصوت شجي :سأروي لكم اعظم ما روى التاريخ عن ظلم الظالمين، وكيف سيرتد على اهله.ذلك ما حدث مع البرامكة الذين فتك بهم الخليفة هارون الرشيد فقتل من قتل و اودع ما بقي منهم السجن.كان خالد البرمكي احد كبرائهم و من اقرب المقربين للخليفة الرشيد،فسأله ابنه وهو في السجن لماذا يا ابتي توزعنا على السجون بعد ان كنا سكان القصور… بالامس كنا امراء و اصبحنا اليوم سجناء. فقال الاب للابن :ـ { يا بني لعلها دعوة مظلوم في جوف الليل…غفلنا عنه ولم يغفل الله عنها }.الظلم لعنة ابدية ستطارد الظالم ونسله الى يوم يبعثون،وسيدفع فاتورة ظلمه دنيوياً و اخروياً كاملة غير منقوصة.
بدافع حب “ابو عرب ” للاشجار كان يؤلمه ان يكسر احد الناس غصناً او يقطع شجرة صغيرة ام هرمة حتى لو كان الامر ضرورياً لفتح شارع … منظر الكسر يؤلمه …كأن ضلعاً من اضلاع صدره يُكسر او ان “ضرسه ” يُقلع من فمه دون تخدير عند حلاق القرية…ذلك الحلاق الملقب شعبياً ” ابو جهل .فهو يمارس عدة ” كارات ” دون خبرة ولا علم ـ من خلع اسنان، الى ختان الصبيان، وكي المرضى بالنار… ـ ابو جهل الحلاق ـ لا يهمه عواقب افعاله.همه الاول و الاخير قبض اجرته… صفاته القبيحة اثارت رعب الاولاد،و جعلتهم ينفرون منه عكس “ابو عرب” الحنون الذي يُغذيهم بطاقة ايجابية عالية ذبذباتها حب وسعادة.
اللغز المحير ان لا احد يعرف شيئاً عن “ابو عرب” ولم يفكر احد في فك “شيفرة” هويته ،اصله ،فصله…حدود معرفتهم به ترديد ذات الاجابة في جلساته. عند سؤاله عن هويته، قول الله تعالى : ـ {{{ ان هذه امتكم امة واحدة و انا ربكم فاعبدون }}} ….والتغني شعراً :ـ بلاد العربِ اوطاني….من الشام لبغدان…. وحلمه بدولة عربية قوية مهابة الجانب بلا يهود و لا حدود.
من سماته المميزة انه صموت بطبعه،يشي بان شيئاً مهماً يشغله.اللافت فيه ايضاً انه رغم بنيان جسده المضعضع، وظهره المحدودب، وتجاعيد وجهه المحفورة بفعل الزمن، يبدو مثل سنديانة تعاند الريح، وتقاوم الزمن فيما اظافرها تتشبث في الارض برسوخ و قوة حيث يبدو للناظر ذي الفراسة انه منحوت من صخرة “بازلت” قاسية رغم ان روحه محلقة كنجمة معلقة في السماء السابعة…رنة صوته الحزينة،نظراته الذابلة توحي بانه يتوجع مما يدور حوله ، لذلك كان وحيداً كثير التأمل والنظر في الافق البعيد بانتظار مفاجأة تحقيق حلمه المعجزة بامة عربية واحدة.
ابو عرب لم يشترك في حياته في جلسة نميمة. لم يغمز من جانب احد.لم يحاول تشويه صورة مخلوق…هذه خطوط حمراء من المحرمات لا يجوز تجاوزها ومن الكبائر المحرم الاقتراب منها. ” ابو عرب” ذو خاصية فريدة ينفرد بها عن غيره، انه لم يُضبط يوما متلبساً بسوداوية النظرة …فبينما كان الجميع يتذمرون لاتفه الاسباب.عندما كانت تجف الحنفيات،وتنضب المياه تأخذ الكثرة الكاثرة من الناس بالشتم باقذع الالفاظ غير انه يرفض هذا المنظق السوقي.في هذه الحالة كان يذهب الى اقرب بقعة طاهرة من الارض… يتيمم بالتراب الحنون ويقول بصوت رخيم : ـ اقرب ما يكون العبد الى الله عند السجود على هذه الارض الطيبة الطاهرة.
ذات يوم افتقد الاطفال وجه العم “ابو عرب”.لمسته الحانية،حلواه الحلوو… فقاموا بحملة تفتيشية عنه في كل الامكنة التي اعتادوا ان يلتقوه، ولما يأسوا، قرروا الذهاب الى غرفته الطينية النائية التي تقع ففي طرف البلدة.طرقوا بابه المتهالك مرات دونما اجابة…فاضطروا لفتحه بالقوة…دخلوا الغرفة فوجدوها عارية تماما….فراش خشن على سرير قديم، و فوق المخدة يسترخي مصحف شريف…جرة ماء في الزاوية…بقايا رغيف وعدة حبات بندورة .في مواجهة مكان نومة خارطة للوطن العربي الكبير مرسومة باليد،بلا اسلاك شائكة ولا براميل عازلة…اللافت فيها انها من دون الوان سياسية باهتة ولا دول كرتونية هشة من صناعة الثنائي سايكس / بيكو التي صار العربان يدافعون عن خوازيقها المزروعة بينهم كأنها مسلمات هبطت عليهم من السماء.
ولما لم يجدوه…!. خرجوا من الغرفة الخاوية الضيقة الى الحقول الواسعة، لعل وعسى.اثناء البحث، وجدوا جثة العم ابو عرب تتمدد ندية طرية في حقل نعناع بري، تظللها شجرة خضراء،فوقها سرب عصافير تُمروح باجنحتها حتى لا تتعفن الجثة بينما يده الناحلة المعروقة تقبض على حفنة من التراب الطاهر.حضر بعض المارة على صراخ الاطفال، ونقلوا الجثة التي تفوح منها رائحة النعناع الی مشرحة المستشفى في المدينة المجاورة لمعرفة سبب الوفاة.

ابتدأ الطيب الجراح بالقلب فوجد فيه قصيدة حب، وخارطة مرسومة باليد للوطن العربي الكبير كانها نسخة منسوخة من الخارطة المعلقة على جدار غرفته. واصل الطبيب التشريح … فتح البطن…لاحظ الناس ان وجه الجراح اكتسا بالشحوب وبدأت قطرات العرق تتصبب من جبينه.. سأله احد الصبية : دكتور هل مات ابو عرب مسموما ام قتله الجوع .؟! اشاح الطبيب بوجهه وذرف دمعتين ثم اغلق حنايا الجسد الطاهر باحترام وتبجيل مثلما يغلق المؤمن كتابه المقدس وغادر المشرحة من دون ان ينطق بكلمة….. ؟!… مدونة / بسام الياسين

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012