09-12-2011 12:06 PM
كل الاردن -
عدنان العطيات
مما لا شك فيه, وفي ظل تطور الثورات العربية ومخرجاتها والحدث السياسي اليومي انه بات اكثر تأكيدا في تعزيز المشهد لتحالف تيارات ما يسمى ' بالاسلام المعتدل' مع قوى الهيمنة وتسويق مشاريع التفكيك والمصالح الغربية ضمن اطر شعبية وقبول جماهيري, ففي الوقت الذي افلست فيه انظمة الحكم الشمولي على توفير ارضية تخدم فيها المصالح الغربية, تحول التحالف لأيجاد قوى سياسية اكثر جماهيرية وفي الوقت ذاته أكثر قبولا لأعادة تشكيل خارطة الشرق الاوسط ضمن مصالح الطرف الامريكي الصهيوني, وهنا جائت ورقة تيارات ' الاسلام المعتدل' لتعبر عن رغبة وتوجه الادارة الامريكية ضمن شكل اكثر ديمقراطية والتزاما بالنصوص والمعاهدات الدولية ولعب دور وظيفي سياسي في المرحلة القادمة.
ولكن قبل الوصول لهذه المرحلة كان لا بد من خلق البيئة الملائمة للتمهيد لهذه النتائج, وهذا ما سنتناوله في بحثنا هذا.
مقدمة:
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, وبداية الصراع الرأسمالي الشيوعي, او ما يعرف ' بالحرب الباردة' بدأ تحول مركز الثقل الغربي الى الولايات المتحدة الامريكية, واصبح الفكر البراغماتي الامريكي هو قائد العالم الغربي بشكل عام, وكان تحول الغرب التقليدي الى الغرب الامريكي, اي تحت الهيمنة الامريكية, وهو ايضا الفكر الذي تم تعميمه على العالم كله منذ سبعينيات القرن المنصرم, وبلغ ذروته بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وخروج الجانب الامريكي كطرف منتصر من الحرب الباردة, وغدت الامركة نظاما عالميا جديدا لا يجد من يتحداه.
فبعد سقوط الاشتراكية المتمثلة في الاتحاد السوفيتي, اتخذت امريكا من الاسلام عدوا لها, لذلك تعالت الصيحات في الغرب منذرة بخطر هذا الدين, وخطر عودته الى الحكم والحياة والدولة والمجتمع, خصوصا وقد بدات الامة الاسلامية تتحسس طريق نهضتها, وتدرك ان لا خلاص لها وللعالم الا بعودة الاسلام وتطبيقه.
وبما ان الغرب, وعلى رأسه امريكا, يدرك مدى هشاشة بنية قاعدته الفكرية الرأسمالية, وعدم قدرته على صراع الاسلام صراعا فكريا, فقد اعتمد خطة ' افضل طرق الدفاع هي الهجوم' , فطفق يكيل الاتهام تلو الاخر للاسلام والمسلمين, مستخدما لفظ الاصولية والارهاب, والراديكالية والتطرف, حريصا كل الحرص على اظهار الاصولية كأكثر أشكال التعبير عن الاسلام وضوحا, فكل ما يفرزه الاسلام سيكون في مواجهة الغرب' وقد وصفت المستشرقة الايطالية ايزابيلا كاميرا دافليتو هذا الوضع بدقة فقالت ' الغرب كان وما زال بحاجة الى اختراع عدو حتى يضمن لنفسه خطا دفاعيا ويظل مترفعا ومتعاليا على ما تبقى من العالم لسنين طويلة, وقد كان هذا العدو يتمثل بالمعسكر الاشتراكي الشيوعي الشرقي, وعندما انهارت الشيوعية برز لدى الغرب السؤال التالي: من سيكون عدونا المقبل؟ فوجد الغرب بالاسلام ضالته كعدو قديم جديد, لكن الغرب ايضا بحاجة الى وسيلة لاقناع مواطنيه بمصداقية هذا الاكتشاف , وهكذا كان من الطبيعي ان يحاول الغرب ترسيخ ملامح الخطر الاسلامي من خلال تقديم ' الاصولية الاسلامية' في صورة العدو العنيف. فكثرت المقولات عن هذا العدو في وسائل الدعاية الغربية وباتت تنذر به كخطر محدق وعدو غاشم.
فقال شمعون بيرس ' لقد اصبحت الاصولية الخطر الاعظم في عصر ما بعد انهيار الشيوعية' , ويقول جان فرنسوا روفيل في كتابه ' الانتعاش الديمقراطي' : ' ان الاسلام هو مصدر تسعة اعشار الارهاب العالمي', ويقول اموس بيرلموتر , البروفيسور الامريكي في مقال نشرته الواشنطن بوست في 19/1/1992 ' ان الاصولية الاسلامية هي حركة عدوانية وقائمة على الارهاب والفوضى, كالحركات الارهابية والحركات البلشفية والفاشية والنازية' , ويقول الرئيس الاسرائيلي الاسبق هرتسبرغ امام البرلمان البولندي عام 1992 ' ان وباء الاصولية الاسلامية ينتشر بسرعة, ولا يمثل خطرا على الشعب اليهودي فحسب بل وعلى البشرية جمعاء' , وقال ويلي كلاس الامين العام لحلف شمال الاطلسي سودويتشة تسايتونغ ' ان الاصولية الاسلامية تشكل تهديدا للغرب بالقدر الذي كانت تشكله الشيوعية'.
وهنا نرى حجم الدعاية التي مارسها الغرب لتشويه صورة الاسلام وخلق العدو المناسب لتحقيق الغايات الغربية والتمهيد للحروب المحتملة القادمة, وبلغ هذا التشويه اوجه بعد احداث 11/9 سواء كانت صنيعة الغرب او هي ارهاب لحركة اسلامية , فقد خدمت اهداف الغرب وبالتحديد الاهداف الامريكية في شن حرب مفتوحة على الاسلام تحت ذريعة الحرب على الارهاب. فاستغلت الادارة الامريكية بقيادة راعي البيت الابيض في ذلك الوقت ' بوش الابن' وهو من المحافظين الجدد ' المسيحيين المتطرفين' والذين اشبعت افكارهم بالخطر الاسلامي وانه العدو الاول للغرب وللحضارة الغربية والامريكية تحديدا. وفتحت الباب امامهم لتحقيق فكرة الحرب المقدسة ' الحروب الصليبية الجديدة' .
وخدمت احداث 9/ 11 اكثر من هدف في نفس الوقت:
اولا: تحويل وجهة الصراع عند المسلمين من كر وهجوم الى رد ودفاع, واشغالهم بقضايا فرعية وهمية مختلقة عن القضايا الرئيسية.
ثانيا: نقل الصراع من اسلامي – غربي الى اسلامي – اسلامي.
ثالثا: كسب تأييد الرأي العام للشعوب الغربية حول خطر الاسلام السياسي الذي يهدد البشرية ووجوب محاربته ومحاربة من يدعون له بوصفه السياسي.
رابعا: ايجاد الوسط الصالح والمناخ المناسب لذوي العقول ' الواقعية' حتى يبتدعوا اسلاما حديثا منساقا مع الواقع ومبررا لوجوده.
التطور التاريخي ومرحلة التحول:
بعد فشل الحرب المفتوحة التي شنتها الولايات المتحدة على الاسلام بالتعاون مع حلفائها في الغرب بعد احداث 9/11, وتجلي هذا الفشل في العراق وافغانستان, اصبح من الضروري للغرب بأن يغير استراتيجيته في حربه على الاسلام , فعاد الغرب الى فكرة تطويع الاسلام بدل كسره, من خلال خلق اسلام جديد يتوافق مع الافكار الغربية ويؤيدها , وهو ما تم التمهيد له من خلال تحويل وجهة الصراع عند المسلمين من كر وهجوم الى رد ودفاع, واشغالهم بقضايا فرعية وهمية مختلقة عن القضايا الرئيسية , ومن خلال اقناع الحركات الاسلامية بالتحول الى الفكر البراغماتي الامريكي او الفلسفة البراغماتية , وهي الفلسفة التي تخضع حقيقة كل الاشياء لما يمكن ان تجلبه من مصلحة من ورائها, ومن هذا المنطلق وضع ' وليم جيمس' منظر هذه الفلسفة نظريته البراغماتية للدين, فالدين يكون صحيحا من وجهة نظره ما دام يقدم نفعا عمليا للمعتقد به, وخلص 'جيمس' الى ان المنافع من الدين تتلخص بالراحة والهدوء والسكينة والطمئنينة والسلام والاغتباط, والمشاعر المتدفقة التي تلهب الصدور وتبعث الحركة في الحياة, فهو ينظر للدين على انه مسكن او مخدر يستطيع الانسان من خلاله مواصلة حياته بطمئنينة وحماسا اكبر, وبهذه الصيغة اصطبغت الحياة الدينية الامريكية الى الحد الذي يقول عنه ' هارولد بلوم' في كتابه ( الدين الامريكي 1992) ' ان المسيحية تجربة براغماتية امريكية, وان ' المسيح الامريكي' اقرب لما هو امريكي مما هو مسيحي'.
ومن الطبيعي بعد الهيمنة الامريكية على العالم, والعالم الاسلامي بوجه خاص, ان يعمل الامريكيون على صبغ الدين الاسلامي نفسه بهذه الصبغة البراغماتية, والذي يعنيه هو العمل على توظيفه لخدمة المصالح الامريكية في المنطقة, وكان المخطط المقترح لتطبيق هذا النهج هو العمل على صناعة ما يسمى ' بالاسلام الليبرالي الديمقراطي' والعمل على تسييده في المنطقة.
وخلاصة هذا الاسلام الليبرالي, انه اسلام يتم تفريغه من الداخل من العقائد والقواعد والاحكام التي يتم استبدالها بمحتوى علماني يسقط كل ما له علاقة بالوحي والمقدس والمرجعية الاسلامية, ويضع مكانه العقل والمصلحة كمرجعية وحيدة للانسان في تصوراته وسلوكه, بينما يحتفظ بالشعارات والمظاهر الدينية من الخارج ' النظرية التفكيكية' , اي ابراز اسلام مزيف يتفق مع العلمانية والديمقراطية والعولمة الامريكية ومبادئ حقوق الانسان الغربية, ويتفق مع كل شئ في العالم الا مع الاسلام الحقيقي نفسه.
الاسلام الذي يدعو الى السلام والتسامح والتعايش, اي التعامل مع الواقع الذي تسيطر عليه الحضارة الغربية بسلام واستسلام, ويعادي الجهاد والمقاومة او يغض الطرف عنها تماما, اي يمنع القيام بمواجهة هذا الواقع الذي يسيطر عليه الغرب.
وهنا وجد الغرب نفسه يبحث عن حلفائه القدماء في العالم الاسلامي, فوجد ضالته في الحركات الاسلامية التي ساعدت الغرب على الوقوف في وجه المد الشيوعي الاشتراكي على مدار عقود وما زالت, اضافة الى التعويم الذي لعبته هذه الجماعات لأضاعة الصراع والتناقض الرئيسي مع الطرف الامريكي الصهيوني, ودعمت الانظمة الشمولية على التمترس خلف حدود التجزئة في احسن الحالات.
هذه التيارات اليوم ذات النفس البراغماتي والانتهازي التي امتهنت سرقة انجازات الاخرين والتخبط في المواقف السياسية, اضافة الى غياب برنامج سياسي حقيقي ورؤى لتغيير الواقع, تعود من جديد لصبغات وعباءات مزركشة بعضها مصبوغ بعبارات ثورية وبعضها يحمل ملصقات ' لحلف الناتو' والاخر يحتفي بالحماية الدولية.....
المفارقة هنا ان هذا البرنامج وجد من يخطه ويقدمه للعلن بما يتوافق مع مصالحه ومشاريعه لاعادة تشكيل المنطقة وتفكيكها. اذ يصبح لدينا جماعة واحدة تمتلك غطاءا اسلاميا واحدا, و برنامج سياسي واحد يخدم هدفا واحدا, وتلعب ادوارا مختلفة بما يخدم البرنامج الجديد, الذي تم خطه بأيدي السياسيين الغربيين لخدمة المصالح الغربية , والذي نراه الان يتجلى عند احزاب ' الاسلام المعتدل' وفي فكرهم الذي كان يخلو من برنامج سياسي واضح او حتى نهضوي او ثقافي.
فكان التحول في السياسة الامريكية وتعاملها مع الاسلام قد بدا في عام 2006 تحديدا, وذلك بعد اقرار مشروع الشرق الاوسط الجديد ,والذي سنتحدث عنه لاحقا.
وهنا بدأ الخطاب السياسي الامريكي بالتحول من الهجوم على الاسلام كدين الى مرحلة تسويق 'الاسلام المعتدل' , فيقول الكاتب والمفكر السياسي دانيال بايبس المعروف بقاعدة ' الاسلام المتطرف هو المشكلة, والاسلام المعتدل هو الحل' , ' لم يتوقف الرئيس بوش عن تكرار ان الاسلام هو ' دين سلام' لا صلة له بمشكلة الارهاب, فهل تؤمن ادارة بوش حقا ان الاسلام هو ' دين سلام' لا صلة له بالارهاب؟, توحي مؤشرات عديدة ان فهم الادارة هو افضل من ذلك, ويبدو من الخارج ان الادارة في حالة من الضلالة الذاتية'.
ويقول وارن كريستوفر وزير الخارجية الامريكية في عهد كلينتون ' اننا ملتزمين ان تبقى قوى الاعتدال ( حركات او انظمة) في المنطقة, اقوى من قوى التطرف , وان الولايات المتحدة واصدقائها وحلفائها سيتخذون الخطوات الضرورية لضمان فشل قوى التطرف'.
واختلفت اساليب محاربة الاسلام ' المتطرف' ودعم ومؤازرة الاسلام المعتدل من ادارة امريكية الى اخرى, فمن عمليات سرية في وكالة الاستخبارات الامريكية, الى عمليات نفسية في وزارة الدفاع, والدبلوماسية الشعبية في وزارة الخارجية, فبغض النظر عن الاسم والطريقة فأن العامل المشترك هو الحث على التطور المسالم المتسامح للاسلام ومن اجل تحقيق هذا الهدف , يكتب كابلان, ' ان الولايات المتحدة تقود حملة من الحرب السياسية لا مثيل لها منذ قمة الحرب الباردة, والهدف هو ليس فقط التأثير في المجتمعات الاسلامية ولكن في الاسلام ذاته......' ويضيف كابلان ' بالرغم من ان رجال السياسة في الولايات المتحدة يقولون انهم منزعجون من كونهم مضطرين لدخول معركة دينية لاهوتية, فان العديد منهم يرون ان امريكا لا تستطيع الاستمرار في موقف الحياد بينما ' المتطرفون' و ' المعتدلون' يتقاتلون على مستقبل دين مسيس يزيد عدد اتباعه عن المليار, وكانت النتيجة جهدا رائعا استثنائيا ومتناميا للتأثير فيما اطلق عليه موظفي الادارة الامريكية ' الاصلاح الاسلامي', وقامت واشنطن فيما يزيد عن عشرين دولة اسلامية , وبهدوء بتمويل برامج اسلامية للراديو والتلفزيون, تدريس مقررات بالمدارس, مؤسسات وجماعات بحث اسلامي, ورشات عمل اسلامية, او اي برامج تدعم ' الاسلام المعتدل', وتتجه المساعدات الفدرالية الى ترميم المساجد والمحافظة على نسخ القران التاريخية القديمة وصيانتها, وحتى بناء مدارس اسلامية, وتقوم محطات فردية تابعة اوكالة الاستخبارات المركزية تعمل خارج الوطن بتحركات شجاعة وجديدة, من بينها ضخ المال من اجل تحييد الائمة الجهاديين والمعادين للولايات المتحدة واتباعهم', ويفسر لنا احد الموظفين الرسميين المتقاعدين حديثا قائلا :' اذا وجدت الملا عمر يفعل هذا في احد اركان الطريق, فكن انت الملا برادلي على ركن الطريق الاخر لتقاوم وتفسد ما يفعل'.
ان العديد من ادارات واجهزة الحكومة الامريكية تشارك بنشاط في هذه المهمة ' الاسلامية' في عشرون دولة على الاقل ويتضمن المشروع ترميم المساجد التاريخية في مصر وباكستان وتركمستان, وفي قيرقيزستان ساعد اعتماد مكالي قدمته السفارة الامريكية في ترميم مقام صوفي هام, في اوزبكستان انفقت الاموال في صيانة مخطوطات اسلامية تشمل 20 نسخة قران يعود بعضها للقرن الحادي عشر, ويتم ايضا تمويل وسائل الاعلام الاسلامية التي تدعو 'للاسلام المعتدل' , وتمثل المدارس الاسلامية امرا مقلقا لانها تدرب الجيل القادم من الجهاديين, وواشنطن تستعين بالعديد من الاساليب لمقاومة هذا التأثير, ففي باكستان تمول الولايات المتحدة في تكتم وحذر اطرافا ثالثة كي تدرب معلمي المدارس الاسلامية من اجل اضافة مقررات دراسية عملية, والان يتم تنفيذ برنامج ' المدرسة النموذجية' والذي سيضم في النهاية الاف المدارس في عدة دول اسلامية.
يتبع في الحلقة القادمة والتي سنتناول بها :
1-الثورات العربية
2- النظرة المستقبلية ومشروع الشرق الاوسط الجديد
3- نتائج وحلول