أضف إلى المفضلة
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024
الجمعة , 26 نيسان/أبريل 2024


لماذا اختفى الفلسطيني "العادي" من ذاكرة العالم؟

بقلم : علي سعادة
12-05-2020 05:30 AM


ثمة صورة نمطية نسجتها المخيلة والذاكرة العربية والعالمية عن الفلسطيني بوصفه كائنًا تنحصر حياته في المعاناة واللجوء والاستشهاد.

وأصبح السؤال الملح هو هل ثمة فلسطيني عادي، المواطن الفلسطيني العادي، الإنسان الفلسطيني الذي يلاعب أطفاله دون أن تقتله أو أن تقتل احد أفراد أسرته رصاصة أو صاروخ إسرائيلي؟
الفلسطيني الذي يتمدد على الأريكة ويشاهد فيلما عربيا قديما بالأبيض والأسود، أو يضحك من كل قلبه على مسرحية عربية مستهلكة من كثرة العرض، أو يقرأ كتابا مع فنجان القهوة وسيجارة متعبة بين أصابعه، أو يستمع إلى أغنية قديمة من زمن بعيد.

الفلسطيني العادي الذي يسجد خاشعا مطمئنا دون أن يخشى جنديا مغمسا بالكراهية يقتحم حرمة بيته فجرا ويجره بملابسه الداخلية إلى ساحة عامة مع شبان القرية أو المخيم.
التراجيديا الفلسطينية على أرض الواقع تقول غير ذلك، توقع الموت المفاجئ وليس الحياة العادية، وعلى نحو مقلق لم يعد بمقدور العالم، وحتى العرب أنفسهم، أن يروا الفلسطيني إلا ضحية، شهيدا أو معتقلا أو محاصرا أو لاجئا، وحين يمارس أي دور أخر، غير دور الضحية، يتهم بخيانة القضية!
جنون ما يحدث في فلسطين هو أن العالم أصبح معتادا على فكرة معاناة الفلسطينيين واستشهادهم.

ثمة جانب أخر من حكاية الصورة المرسومة عن الفلسطيني، فضمن أكثر حملات التاريخ نفاقا وقلبا للحقائق، يصور اليهودي/ الإسرائيلي، في الإعلام الدولي بوصفه الضحية، ويوصف الفلسطينيين بـ'القاتل' و'الإرهابي'، وربما هذا ما يفسر الصمت الدولي الذي رافق جرائم مقتل الأطفال الفلسطينيين أبان الانتفاضة الأولى والثانية، وفي الحصار المضروب على غزة، والحروب الثلاث التي شنت ضدها، وفي عمليات القتل والاستهداف لمسيرات العودة التي كانت تنطلق كل جمعة من غزة، وغيرها.

هل هو سقوط قانوني وأخلاقي للعرب وللعالم الحر وللديمقراطية واليبرالية والحداثة، انتحار إنساني بكاتم الصوت أمام الطفلة الفلسطينية التي حملت شقيقها البالغ من العمر ستة اشهر من تحت الركام وأخذت تركض به، في ممرات المستشفى بغزة، كمن مسه جنون مؤقت، وقد غطى التراب والدماء وجهها ووجه الملائكي وهو يصرخ بين يديها من شدة الألم.
من الصعب التكهن أي من الصور التي التقطت للجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، سترمز أكثر إلى تلك الحقبة الكالحة السواد من تاريخ العرب بعد الحرب العالمية الثانية، هل هي صور الشهداء محمد الدرة وفارس عودة وإيمان حجو وسارة عبدالحق، مشهد هديل على شاطئ غزة تبكي والدها وأسرتها، مشهد شهيد الجرافة، أم ماذا؟

أيهما أكثر تأثيرا صورة محمد الدرة الذي وجد نفسه مع والده وسط إطلاق النيران، وهما في طريقهما لشراء أدوات وقرطاسيه وملابس للمدرسة عند تقاطع نتساريم (مفترق الشهداء فيما بعد ) في غزة فسقط شهيدا أمام كاميرا التلفزيون الفرنسي، أم فارس عودة الذي تحدي بإصرار ووعي الدبابات الإسرائيلية حتى سقط شهيدا في مشهد سينمائي أسطوري وأمام كاميرا فرنسية أيضا .
يقال أن الصور، رغم قسوتها، هي في النهاية انعكاس لفشل السياسات وليست سببا لها، وإذا تغيرت السياسة وأزيلت ذيول المشكلة وما لحق بالذاكرة من خراب فان الصور ستمحى من الذاكرة، وتتلاشى وتتوارى من أمام عدسات المصورين.

قد لا تثير عملية اغتيال قائد عسكري أو رمز سياسي أو ديني الغضب والاستفزاز، بنفس الدرجة والوتيرة، حين رؤية النساء والأطفال مضرجين بدمهم، وقد شوهت القنابل والصواريخ أجسادهم، ونثرت أشلاءهم في زقاق المخيم وطرقات الأحياء الفقيرة المعدمة وعلى الشاطئ.

هل الحديث عن التراجيديا الفلسطينية بكاء في غير موضعه أو نحيب ليس أوانه، بكائية في زمن عربي موجع مهيأ في كل وقت للبكاء على أرض تحتل أو جنرال يخون قائده في ساحة الوغى، أو اغتيال هنا وتفجير هناك، أو سياسي يمتهن الكذب والشعوذة واللعب بالبيضة والحجر؟

الحديث عن الفلسطيني العادي حديث ذو شجون يجرك من ناصيتك إلى عالم من العواطف الموجعة و المغرقة بالأنين، لحظات جرفتها الكارثة، محاولة متعبة للامساك بأردية شهيد، نعي متأخر لشهداء فلسطين، رثاء للذين لم يتمكن أحد من رثائهم لأن العالم نسيهم تحت ركام برجي نيويورك والحرب على 'الإرهاب ' وسقوط بغداد والحروب الطائفية و'صفقة القرن' وجنون وهوس التطبيع العربي مع الاحتلال.

متى يستبدل العالم صورة الفلسطيني، الضحية، المضطهد، بصورة الفلسطيني العادي، العادي جدا، الذي يلاعب أطفاله ويرقص طربا على صوت عربي قادم من بعيد.!السبيل

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012