أضف إلى المفضلة
السبت , 27 نيسان/أبريل 2024
السبت , 27 نيسان/أبريل 2024


في ظلال الحضارة

28-04-2012 10:47 AM
كل الاردن -
العقيد المتقاعد خالد علي الزغول

الحضارة كلمة واسعة تعيش فيها مفردات كثيرة ,وثقافات متنوعة من الماضي والحاضر ، ونحن أمام تغييرات كونية كبيرة وطارئة، تتلون فيها الأفكار وتتغير، وتضع الانسان في حيرة مع الواقع ،الذي يتعارض أحيانا مع مبادئه وقيمه وفهمه للحياة، والثابت أن الانسان بفطرته ميال الى الفضيلة والطهارة والبساطة ،التي تنقله من كدر الحياة وتعقيداتها الى واقع بسيط يتشارك فيه البشر المشاعر والأحاسيس، فالانسان اجتماعي بطبعه ،ويألف الواقع الاجتماعي ويسعد به .
ان مايثير الاهتمام هذه الأيام أن بعض الناس أصبحوا غير قادرين على تمييز الخير من الشر، وخلطوا الغث بالسمين، فأبعدهم هذا عن دورهم الحضاري الذي يمارسوه كبشر ولم يجن لهم السعادة وراحة البال والضمير.

ومع نسمات نيسان تلبس الأرض حلتها البهية، تستقبل الفلاح والزارع والشاعر والفنان ،الذي يرى فيها بدائع صنع الله وقدرته، نرصد أشكالا من السلوك........ فالشاكرون يسكنون الطبيعة، يتنسمون هواءها العذب ،يتأملون لوحاتها الجميلة، يبادلونها الحب والوفاء ،يزرعون شجرة ويزيلون عثرة، وينصرون مظلوما، أو يرسمون لوحة يحفظون بها الذكريات الجميلة ، ....................والصاخبون يملأونها ضجة صراخا، ولا يجنون منها الا الشوك ،أما الشعراء فيكتبون القصائد الجميلة، والكلمة الطيبة التي تعيش مع اأاشجار المزهرة والواعدة بالثمر

وللبعض طريقته الخاصة في التواصل مع محيطه ، وهو يعبر عن ذاته بشكل يعكس حالة الكدر والصخب التي يعيشها ،فيلون الطبيعة الطاهرة بلون قبيح بسجارته ودخانه، وحتى في النفايات التي يتركها هنا وهناك، يلوث فيها الأرض والشجر والحجر، يكافؤها على عطائها وعذريتها، ينفث فيها سمومه، يغبر وجهها الجميل بشتى مظاهر العبث والفشل والتخلف، فتلفظه الأرض نافرة منه وزاهدة فيه ، أما الأرض والسماء فتذكر الأبرار وتبكيهم ،لأنهم تركوا أثرا طيبا ، مروا قريبا من الغدران والأنهار فعذب ماؤها بشكرهم، وأغدقت اشجارها ببركتهم، وظلوا ذكرى تنفع العارفين فزرعو شجرة، وقالوا كلمة طيبة، وبنوا بيتا لله يذكر فيه اسمه، وأصلحو بين البشر بنبل أخلاقهم، ونقاء أرواحهم، فبكتهم السماء والأرض، وذكرتهم في مشهد الأبرار، وعابت من ينتسبون الى الناس كيف تركوا منافعهم ومحبتهم، وقدموا انفسهم مصلحين وراشدين وأخيارا، وأياديهم متسخة تفسد في الأرض، وتهللك الحرث والنسل ،وتنشر الضجر والصخب، وتكافيء الأرض الطاهرة بأكوام من النفايات والسموم ، وهي تحج الى نقاء الطبيعة وطهرها،............ فمظهر الاقحوان والزعفران والعبهر وأشجار البلوط وانسياب المياه في الجداول والوديان ونسمات الربيع الحانية تبددها أكوام النفايات التي خلفها من يدعون أنهم يقصدون الطبيعة للاستجمام والنقاهة، وهم يشوهون هذه اللوحة الغناء في أحضان الطبيعة بألوان من السموم، تنعبث منها الروائح النتنة، بعد أن كانت واحات جمال، وحقول خصب وأماكن للتأمل والصفاء .

ان هذا العطاء الذي جادت به السماء، وشكره الشجر والحجر، وأخرجته الطبيعة بحلة تسبح لله الخالق وترسم رحمته وجماله ،جحده بعضنا وهم يعبرون عن هذا الشكر برميهم للنفايات في صورة ظالمة ، فكافأوها صخبا وضجيجا، وشوهوا وجهها بالسموم التي أفسدت الأجواء وتركوها بائسة حزينة،......... وهنا تحضرني صورة الجمال والطهارة التي قامت عليها شرائع السماء ، واعتمادها أساسا للعبادات، وشرطا لصحتها، فكيف يستقيم ذلك مع مايدعيه هؤلاء من حرص على اقامة الشعائر ، والحفاظ على البيئة، وحتى التغني بجمالها !؟،
اننا نعيش في عالم تسمو به الأمم بحضارتها، وأناقتها، ونظافتها، وقيمها العريقة، التي قطفتها من شجرة مبادئنا الوارفة ، وغابت عن البعض حتى أصبحت غريبة، فالتاريخ والجمال والثقافة والذوق الراقي تعيش معا في البيئات المتحضرة ،..............فالآثار التاريخية في فرنسا مثلا ليست للفرجة، بل أماكن للتأمل والجمال، بتناسق وتناغم وأناقة حية، تكاد لاتفرق فيها الماضي من الحاضر، فالأرصفة والطرقات التي تربط بين ردهات قصر فرساي مثلا والألزيه جميلة بجمال الناس وابتساماتهم ،والطرقات والأرصفة زاهية تحسبها لوحات مرسومة من شدة اتقانها وتجانسها ،والشوارع القديمة تعيش مع شوارع الشانزليزيه، تحكي احترام البشر والحجر والمكان، وتجوالك بين هذه الأماكن عبرة وتاريخ وتأمل ،ينسيك التعب والضنك، يأخذك الى الخيال والنماء ، يجعل من روحك تحلق ، تعيش التاريخ تبحث عن الصفاء، يأخذك الى الماضي والحاضر، وتأنس الراحلين ممن سكنو هذه الأرض، دون أن تقيم متحفا، او تقرأ صفحات تاريخ ،فهو مع الواقع حاضر بهي جميل، يعيش فيه ولا ينفصل عنه

مع هذه المشاهد المتجانسة دخلنا قلوب الناس هناك، ومع أجواء رومانسية تاريخية سعدنا في أحد جولاتنا الاعلامية بطراز حضاري راق، وفي مدينة كبيرة في شمال فرنسا ،استقبلنا أحد المرافقين بابتسامته الوادعة، في بيت فرنسي من القرون الوسطى، لم يشدنا مظهر الشوارع الحديثة ،والعمارة الفارهة، والأسواق الواسعة ، بل اجواء الهيبة والوقار بطقوسها وتقاليدها ،............. كنا جميعا نرتشف قهوة الماضي بنكهتها الأصيلة، والعشاء الليلي باتكيته الشعبي الراقي ، أدارت فيه جلسة الحوار سيدة فرنسية مسنة، بأدب ملتزم، يحترم الكبير ويوقره ، ويحنو على الصغير، ويحتضن الماضي وأصالته ، بطقوس غابت عنها الأصوات الصاخبة، ونابت عنها أصوات الطيور والبلابل والمزارع ،والأضواء الساطعة بفوانيس خافتة، وخيم على المكان سحر الماضي برائحته العبقة ،حتى حسبت أن الجلسة في بيت جدتي، فشكرت هذه السيدة الفرنسية الوقورة بالقول :
'شكرا لك فقد ذكرتني برائحة جدتي ،وأسكنتني في بيتها الدافي' ، لأنني أدركت اننا أمام درس انساني يجمعنا معا ،ولابد أن يكون مشهدنا الانساني حاضرا ، والفرق الكبير أن هذا المشهد تمارسه الشعوب الراقية واقعا في حياتها، ويستخدمه الكثيرون منا برتكولا طارئا لتزيين صورهم القبيحة ، فيظهر النفاق والكذب والرياء في تصرفاتهم ، ويصل الاسفاف بهم صورة شكل بدائي حيواني يكافئون فيه طبيعتنا الجميلة بنفاياتهم وسخبهم ، ويجردوها من ثوب جمالها ، فيقطعون اشجارها، ويعروها من لباس الطهر والجمال ، ويهلكون بفسادهم البلاد والعباد ،ويتطاولون على البشر بثياب التجبر والخيلاء ، فاقترنوا بذلك بالعتاة الغافلين ،وشوهوا صورة خلق الله الطاهر، فلا قالو كلمة حق ،ولاشاركو باغاثة ملهوف ،ولامدوا يد مساعدة الى محتاج ،واستغفلوا الناس وفقرهم فاندسوا بينهم كما تفعل الوحوش تنهش وتفترس من غير خلق ولا ضمير، فهم مرض هذا العصر الذي يجب تشخيصه واستأصاله، لتنبت الأرض زرعا وزهرا بعيدا عن ريح ضلالهم وفسادهم
ماأجمل ان نعيش ببركات مبادئنا، التي غابت شمسها خلف غيوم ضلال العابثين، فوضعتنا أمام خيارات صعبة، وجعلت المسافة بيننا وبين قيمنا العظيمة تبتعد أكثر فأكثر، والنبع بين أيدينا يتدفق عذبا من آيات الله وقرآنه العظيم ،الذي كنا بفضله خير أمة احرجت للناس، نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونقود ركب الحضارة الانساني، الذي اصبح اليوم غريبا علينا وصدق فينا قول الشاعر
كالعيس في البيداء يقتلها الضما
والماء فوق ظهورها محمول

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012