أضف إلى المفضلة
السبت , 27 نيسان/أبريل 2024
السبت , 27 نيسان/أبريل 2024


عندما يغيبُ النقد

بقلم : علي زعتري
20-09-2022 05:42 PM

الدول والحكومات والأمم لا تستقيمُ حيواتها وشؤونها دون وجود الناقد لها في كل أمورها، و وجود حوارٍ بين الناقد والقائم علي هذه الأمور، هذا هو مبدأ المشاركة وحرية التعبير وهو ما طلبهُ الله تعالى من الأمة حين أمرها بالشورى، وما الشورى إلا حوارٌ عميقٌ يقود للمنهج القابل للتنفيذ، غير أن هذا المبدأ المثالي لا يسلمُ من الاستبداد والاستفراد بالحكم المطلق على مر القرون وفي كل الأمم من رأس العائلة لرأس الدولة تجذرت الفردية وضعفَ التسامح عن قبول النقد.

نموذج الحكم في العائلة والدولة يقعُ بين طرفي القيد القاسي والحريةُ المطلقة وبينهما نماذج تخلط بين هذين النقيضين لتنتجَ حوكمةً ترضى بها الناس أو تقتنع بأنها الأفضل من صغيرِ الشأن لكبيرهِ يُثْرِي الحوار ثم القرار ثم مراقبة تنفيذه والتصحيح كل اتجاهٍ للتطور البشري ومن صغيرهِ لكبيرهِ، كذلك يخنق الاستبداد بالرأي و الانفرادية كل منفذٍ للتسامح والاقتناع الفردي والجمعي، ولتبرير الاستبداد والفردية يستخدم المستبد المنفرد مفردات الكبير والحكيم والخبرة طاغياً بذلك علي مفردةِ الشورى ومبدأ التداول والتحاور، ومن المؤسف أن المستبدَ سيجدُ دائماً من يعينُ استبداده ويهدمُ حججَ الشورى والتداول وحرية الكلمة، ولهذا تُصاغ القوانين تحت مسمياتٍ عديدة تعلو و تنخفض سقوفها لضبط ولكبت النقد وللتنفيس عن السخط والاعتلال الذي يصيب الناس فتعلو أصواتهم لكن دون نتيجة.

المؤسف هو تماهي البعض مع قبول كل ما يصدر عن الراعي دون رغبةٍ في نقاشٍ، حباً أم جهلاً أم نفاقاً، تماماً كما في العائلة تنقسمُ الأدوار فهي في البلاد الشاسعةِ كذلك، والمؤلم هو سهولة خلق الرغبة العارمة المتعمدة لإقفال أبواب السؤال والانسياق وراء العاطفة وتغييب حق الاستجواب الطبيعي لمسائل الحياة وللقرارات التي تصدر كمسارٍ طبيعي في الحياة، هنا تتحد رغبة ولي الأمر بالتفرد ورغبات المُتزلف المتماهي بالانتماء، وإن بتجاهلِ الحاكم له تماماً فهو لا يرى فيهِ إلا هاتفاً له في الشارع أو الصحيفة وتضيقُ مساحات الرأي إلا بالقبول والإشادة وتتحول التساؤلات المشروعة من العَلَنِ الصحي للفرد والمجتمع والنظام، تتحول للخفاءِ مثيرةً الشبهات والخلافات المعهودة التي تنتهي بحملاتٍ تسكيتيةٍ للرأي وتنتهي هي الأخرى بعد زمن ربما بخلع الحاكم واستبداله بنظامٍ يدعو للحريات ثم لا يلبث النظام الجديد أن يعيد الكرة، نرى هذا حتى في العائلة حين يقف الأبُ راعياً ومانحاً وحاسماً أمر العائلة والأم تابعة علي مضض أو موافقة والأطفالُ توابع بلا قوة كذلك، ثم قد تقوى شوكةُ النقد عند نقطةٍ ما فيبدأ الخلاف بين الأب والأم الذي يمر بمراحل من الأخذ والرد وربما النهرُ والعنف وقد ينتهي بالاستسلام للأمر الواقع حمايةً للسمعة والعائلة أو للإنفصال وما يحتويهِ من تعقيداتٍ.

لقد عشنا ونعيش هذا النموذج في بلداننا العربية حيثُ كثيرٌ من الشعوب لا تتسامح واختلاف الرأي، ويعيشه الشعبُ الغربي الذي يتمتع بالحريات علي اختلافها وعلى الجوانب الشخصية الحياتية اليومية أكثر منها من العامة والخارجية، أوجه الإختلاف متعددة جداً بين النوعين من الشعوب ولو ذكرتها لاتُهِمْتُ بمحاباة الغرب المستبد والعدو لأوطاننا المستهدفة، والحقيقة أنني أنظر بواقعيةٍ للنموذجين، فلا أقبلهما علي علاتهما، وعلاتهما كثيرة ولا تُعد، فلا يمكن لعاقل أن يتغاضى عن أفعال الغرب، كما لا يجوز التغاضي عن أفعال العرب، و لكن إثارة الأخيرة بالنقد تثير ردوداً اتهامية، فكأن المطلوب هو تكرار الإشادة مهما كانت الأخطاء عظيمة وجلد الغرب لأنه السبب.

إن الإشادةَ العمياء خطأٌ وقع فيه العديد من الشعوب، كما حصل معنا، مندفعين لوسيلةِ خلاصٍ أو نصرٍ أو افتخارٍ اشتقنا له، كثيرُنا يحب جمال عبد الناصر وهو محق فالرجل كان له عطاءاتٌ وشخصيةٌ جاذبة ولهذا فالكثير لا يحتمل انتقاد فترة حكمه، وكثيرٌ يمقتهُ ويتهمهُ بتدهور بلده والعرب، و لصدام حسين عشقٌ كبيرٌ ما زالَ و للكثير كان ويبقى بطلاً لا يجب الانتقاص من صورته، بل إن صورته في الأردن تُزَيِّنُ السيارات في تزايدٍ مثير للعجب، وكثيرُ جداً لا يذكره إلا باللعن، وكذا حافظ الأسد وياسر عرفات ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح وغيرهم ممن فارق الحياة، ومن تبعهم من قياديين أحياء اليوم لا يجرؤ أحدٌ انتقاد قرارتهم دون المخاطرة بالدخول في شجاراتٍ ومشاكل.

القارئ لتاريخنا يعلمُ أننا نقدسُ الشخصيات القيادية التي تحيطها هالات العظمة والتنزيه لاعتباراتٍ مختلفة، وقد يكون، لكن علينا أن نعترفَ أنهم بشرٌ غير معصومين من الخطأ وأنهم وقعوا بأخطاء كارثية ويتكرر الخطأ من قيادات هذا الزمان في كل مستويات العمل العام وحتى الخاص الذين لا يقبلون النقد ولا يتحملون الرأي المغاير، وإن قبلوه فعلى مضضٍ وبسقوفٍ محددة، هذا هو الواقع ولا أختلفُ مع من يقول أن حرية الغرب النقدية تصل للبذاءة فهي كذلك لكنها حريةٌ سمحت بالكشف عن الفساد وإقصاء رؤساء.

ولا أختلفُ مع من يقول إن أوطاننا مستهدفة والعدو يترصدها ولا يترك قائداً وطنياً من شَرِّهِ، وأنه حسبما يُقال علينا أن نتورع عن إنتقاد الذات ومساءلةِ أفعالها وأن علينا أن ننتقد العدو ونشيدَ بالوطن، وأنا أختلِفُ معهم في هذا، فالوطنية لا يجب أن تعني عمىً عن الأخطاء وإشادةً دون تعقل، بل حقيقٌ علي المواطنة أن تكون صريحةً ومِعطاءةً ضِمْنَ نظامِ حرياتٍ منفتحٍ لا يكتم ولا يكمم الرأي وضمن هرميةٍ من المسؤوليات والعواقب تصِفُ وتُعطي المسؤول والمواطن حدود الوصول للمعلومات ونشرها تحليلها.

ليس علي المواطن مثلاً عبءَ معرفة صفقات السلاح والخطط العسكرية أو بناءاتٍ عظيمة لكن من حقهِ أن يسألَ ويفهمَ عندما تفوح روائح فساد الصفقات وتُخسَرُ الحروب ويموت مئات الآلاف، وقس علي ذلك ما هو أقل مقداراً من السلاح و الحروب و المدائن، التراجع المعيب في التنمية والخدمات مثل انقطاع الماء والكهرباء و تردي الخدمات الصحية و ازدياد الخوف من المستقبل و ارتفاع وتيرة الهجرة و العزوم عليها و لو انتحاراً في قوارب الهجرة وتفضيلها بين الشباب على البقاء، ولنذكر التفاوت الطبقي و التباعد المفروض قسراً بين من يملك ومن لا يملك الموارد المالية.

إن تقليبَ صفحات الوطن العربي يكشِفُ عن كوارث حَلَّت بنا لها صِلاتٌ بالفساد و الصفقات و القرارات الإنفعالية كلها قادت لويلاتٍ لم يتعافى منها المواطن لليوم. نعلمُ أن العدو يحيكُ المؤامرات و يصيد بالشباك و يحاصر و يعاقب و يضرب. لكن العدو لوحده ليس السبب الرئيسي. و إن كنا متحفظين، فلنقل أن الأخطاء مناصفة بين استبدادٍ داخليٍّ و عدوانٍ خارجي. فإن كان العدوان أمراً لا يمكن إلا أن يكون فلماذا لا نُصْلِحَ النصف الذي نسيطر عليه؟

الرد علي السؤال هذا يصطدم بالإجابة المراوغة إياها. أننا نفعلُ ما نستطيع و العدو لا يتراجع عن تثبيطِ أفعالنا و عرقلتها. لا أدري ما دور العدو في الحالة العربية الناهبة الفاسدة التي تمرمغُ جباه الأوطان. من يقول للعربي أن ينهب و يفسد و يصنع المخدرات؟ الإجابةَ الجاهزة للإسكات هي أننا شرفاء ذوي نخوةٍ لا نسمحُ بالضيم. و إن انتقدتَ هذا التعميم، بأننا لسنا كذلك تماماً، فأنت مع العدو ضمناً في تقويض البلاد ودحر العباد. و إن لم تُصَنَّفَ مع العدو فأنتَ لا بد تنوي الإساءة للوطن أو المقاومة أو الرموز. الأجدر أن تصمتَ و تترك الأمور لِأًولي الأمور. هذا هو المنطق السائد و من يشذ عنه يلقَ لوماً و ما هو أشد، وقد نعتقدُ أن ديموقراطيتنا المتمثلة بمجالس النواب و الأمة و الشعب والشورى والقضاء، والسلطة الرابعة ستقوم بمهمة فصل وضبط السلطات و الرقابة و المحاسبة لكن هذا الاعتقادُ يصطدمُ بالتوغل المخيف للسلطة التنفيذية، باستبدادها و تسلطها، علي ممثلي الشعب و علي القضاء و و شراء الأقلام و محطات الإعلام. طبعاً هناك هوامش مسموحة لكي يتولد الانطباع باستقلالية هذه عن السلطة التنفيذية لكن المسار أو المنحنى الطويل لا يلبث أن ينحني لتشكيل الدائرة، فنقطة البداية هي النهاية و هي رغبة ولي الأمر بالمعنى الأشمل لسياسة الدولة، هكذا نحنُ.

وأيضاً هكذا هي السياسات الخارجية للغرب حين تحتفظ السلطة التنفيذية بالخيوط و لكنها علي عكسنا تسمح بهوامش نقاش متسعةٍ مع الجهات النيابية و الإعلامية يتشكل عبرها رأيٌ وازنٌ قد يؤخذُ به وقد لا يؤخذ لكن اتخاذهُ كان قد مَرَّ حتماً بسلسلةٍ من التمحيص. و لكن السلطة التنفيذية إن قررت فعندها، أي عندهم، من وسائل الإقناع والاستثناء للرافضين ما يبرر سياساتها و يهزم حججهم. أسوق مثلاً نواباً بريطانيين عارضوا الحرب علي العراق، فلم يستمع لهم سميعٌ من الحكومة. و استفرد بمجلس النواب و الأكاديميين ممن عارض سياسات أمريكا في العراق و المنطقة العربية، و لم يستمع لهم تنفيذيٌّ واحد. لكن أحداً لم يمنعهم من قول رأيهم و إبداء الحجج الدامغة التي يتداولها العرب تدليلاً علي صِحةِ صراعنا ضد الصهيونية والاستعمار. الفرق بيننا و بينهم هو فعلاً مساحات الحرية و فرصةَ عرض الفكر المعارض دون خوفٍ من ترهيبٍ و تقييدٍ. هل لنا أن نتخيل مثلاً مظاهراتٍ في العراق ضد الحرب مع إيران أيام تلك الحرب؟ أو ضد غزو الكويت؟ أو كاتباً بوسيلةِ إعلامٍ عراقيةً لا يؤيد الحكومة؟ و خذ من ذلك مثلاً تُسْقِطَهُ علي ما تلى تلك الأيام و لليوم في كل الدول العربية. الإستثناء كان ثورات الربيع العربي لكنها لم تكن إلا انفجاراً نتيجةَ الاستبداد و رفض النقد. و إن يفشل الرأي المعارض في الغرب في تطويع السياسات الخارجية فإنه لا يفشل في السياسات الداخلية و في الرقابة النيابية والقضائية وفي فرض التغييرات ومحاسبة المعتدين علي القانون. بينما نقف نحن قاصرين أن نواجه أو يكون لنا رأي في تحويل مسار شارع عدا عن سياسات عُظمى.

قبل أيام كتبتُ مقالةً عن التهديد الأجوف كنايةً عن إطلاق التصريحات دون أفعال و قد نالت المقالة نصيباً من اللوم حين لم يقرأ اللائمون فيها سوى أنها انتقدت من يؤمنون بارتفاع مكانتهم عن النقد. لكن فاتهم أن النقد ضروريٌّ ضرورةَ المسائل الحيوية التي نعيشها. إن الراغب في فهم من و ما يسيطر علي حياته يجب أن يتحلى بملكةِ النقد و بملكة قبوله. و لا يعني النقد كراهيةً أو محبةً لطرف و لكنه يطلب الواقعية و يتوخى من المتابع أن يفهم. و إن لم، فلا ملامة. فهكذا للأسف أصبحنا.

علي الزعتري

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012