أضف إلى المفضلة
السبت , 27 نيسان/أبريل 2024
السبت , 27 نيسان/أبريل 2024


بين السياسة والاحذية علاقة قديمة

بقلم : رابعة الشناق
16-07-2012 10:59 AM

عندما وقف نيرون في شرفة قصره يتمتع برؤية روما التي أحرقها بكامل مجدها، كان يقف إلى جانبه مرافقه الفيلسوف رينون. فسأله نيرون كيف وجد منظر روما وهي تحترق، فقال له الفيلسوف:
'إذا احترقت روما فسيأتي من يعيد بناءها من جديد، وربما أحسن مما كانت عليه، لكن الذي يحز في نفسي هو أنني أعلم أنك فرضت على شعبك تعلم شعر رديء فقتلت فيهم المعاني، وهيهات إذا ماتت المعاني في شعب أن يأتي من يحييها من جديد '.

حكاية الأحذية و الحكمة من رميها ؟؟؟؟؟هل من رماها يريد الشهرة . . ؟؟هل يريد دخول التاريخ . . . لكن التاريخ لا يبدأ من الأحذية ، فرمزية 'الاحتقار' الكامنة في القذف بالحذاء' معروفة ومتوارثة منذ القدم في الشرق
نستعيد عبر الذاكرة كثيرا من عناوين الصحف التي استهلت اقوالها:
صحفي عراقي يقذف بوش والمالكي بحذائه ويهتف قائلا: 'كلب'بعد مشادة بينهما واتهامات لعز بالفساد
قيادي بالحزب الحاكم يتهم ابن شقيق السادات بمحاولة ضربه بالحذاء، سوداني يرشق الرئيس البشير بحذائه.. والرئاسة تتنكر للواقعة ، ضرب رئيسة المحكمة الإسرائيلية العليا بالحذاء
مجهول يلقي حذاءه على وجه 'نجاد' في ميدان رئيسي بإيران

هل دخلت الاحذية معترك الحياة السياسية؟؟؟؟
التاريخ يقول : بين السياسة والاحذية علاقة قديمة. فقد استخدام الحذاء للتعبير عن مواقف سياسية، وكثيرا ما كان حاضرا في الثقافة السياسية. أحيانا يَضرب السياسي به، وأحيانا هو يُضرب هو به كما حصل مع الرئيس الاميركي جورج بوش في المؤتمر الصحافي الاخير له في العراق، حيث كاد أن يتلقى ضربة على رأسه بحذاء الصحافي العراقي منتصر الزيدي، لولا رشاقته وسرعة حركته. هذه الحادثة قد تكون الاحدث من بين سلسلة الاحداث التي وقعت سابقا والتي تدل على وجود علاقة بين السياسيين والاحذية، ولكنها ليست الوحيدة التي ستدخل التاريخ. ففي عالمنا العربي، تعود علاقة السياسيين بالاحذية الى القرن الثالث عشر، عندما قامت أم علي زوجة عز الدين أيبك وجواريها بقتل ضرتها شجرة الدر، حاكمة مصر، ضربا بالقباقيب! أشبعت أم علي وجواريها شجرة الدر ضربا بالقباقيب في الحمام، انتقاما لمقتل زوجها .

ومنذ ذلك الوقت لعب الحذاء دور البطولة في كثير من المواقف. هذه العلاقة اضحت علاقة عجيبة ومثيرة للدهشة، ففي الوقت الذي سببت إحراجا لبعض السياسيين وولدت مشاكل كبيرة بين شعوبهم، كانت مصدرا للفخر وتعبيراً عن مواقف نبيلة لأصحابها، حتى باتت «العلاقة بين السياسي والحذاء أعمق مما نتصور».

لكن أكثر ما عرف وانتشر عن مواقف الأحذية أنها تسببت في إحراج العديد من السياسيين وأنها استخدمت للتعبير عن الغضب والاعتراض على موقف سياسي معين، مثال نيكيتا خروتشوف الذي استخدام حذاءه مرتين. الأولى ، بالضرب بحذائه على منصة الأمم المتحدة، اعتراضاً على خطاب رئيس الوفد الفليبيني لورنزو سومولونغ، الذي انتقد فيه الاستعمار السوفييتي في أوروبا الشرقية. والثانية عندما خلع حذاءه وضرب به الطاولة الموجودة أمامه في الجمعية العامة احتجاجاً على تصريحات الأمين العام دوغ هامرشولد
رغم الحرج الذي شعر به وزير الخارجية السوفييتي أندريه غروميكو ، إلا أنه راح يضرب هو الآخر الطاولة بحذائه بل وانضم إليهما بقية أعضاء الوفد السوفييتي.

ونتذكر صدام حسين عندما رسم صورة لبوش الأب بالفسيفساء على أرضية فندق الرشيد الشهير في بغداد بعد نهاية حرب الخليج الثانية في العام 1991، مكتوب تحتها بالعربية والإنجليزية «المجرم جورج بوش»، وذلك حتى تدوسها النعال لدى دخولها الفندق، حيث يمثل رفع الحذاء أو التهديد بالضرب به أقسى أنواع الإهانات في الثقافة العراقية والعربية بشكل عام.
ولا ننسى ما قام به المصريون والفلسطينيون معا حيال وزير الخارجية المصري أحمد ماهر، حيث تعرض فور دخوله إلى باحة المسجد الأقصى للاعتداء وقام المهاجمون بترديد هتافات تتهمه بالخيانة، وبدؤوا بإلقاء الأحذية عليه .
غير أن للأحذية مع بعض السياسيين مواقف جيدة استخدمت فيها كوسيلة للتعبير عن الاحترام والتقدير، يحكى أن الزعيم الهندي الشهير غاندي كان يجري للحاق بالقطار، وعند صعوده القطار سقطت إحدى فردتي حذائه على الأرض، وحين فشل في التقاطها، أسرع بخلع الفردة الثانية ورماها بجوار الفردة الأولى على سكة القطار. فتعجب منه مرافقوه وسألوه عن السبب؟؟؟؟؟؟ فأجاب غاندي: «أحببت للذي يجد الحذاء أن يجد فردتين فيستطيع الانتفاع بهما، فلو وجد فردة واحدة فلن تفيده».

مما سبق تستعيد الاذهان مقولة الحبيشي 'حين تنتهي الثورة لاحتكام العقل للحذاء، ولا تطول اليد إلاّ ما تنتعله القدم، فإن الثورة تتحوّل من ثورة للكرامة، إلى ثورة عليها، وحين يبلغ الطيش مداه، ويتوقع الثائرون أن وضع العقل في بطن الحذاء سيجعل الحذاء مفكّرًا، أو سيساعد العقل على المضي قدمًا، حين تصل الأمور هذا الحد من هدر التضحيات، وتشتت الرؤى، وإراقة الغايات على رصيف الفوضى، فإن انتكاسة كبرى قد أحاطت بالعقل، والقيم، والأولويات، ولن تزيد طينة الضياع إلاّ ابتلالاً يلطّخ وجه الثورة، ويغشى عينيها فتتخبط وتسير بغير هدى، وتسيء، وهي تحسب أنها تحسن صنعًا، وربما تزداد الأمور سوءًا فتجد الثورة ثائرة على نفسها، وعلى مبادئها، بل ومتّهمة بارتكاب جناية أخلاقية على عرض الكرامة، بدل حفظها والانتصار لها.
إهانة العقل في معترك الثورة الإنسانية، وخضم هيجانها هو الاعتداء الحقيقي على الكرامة، وسيبعث العقل للانتقام من مهينيه، والانتصار لذاته فهو -مناط الكرامة وسرها الفطري- وشقلبته، ووضعه أسفل سافلين، لن يعلي شأن الحذاء، ولن يمكّن الأقدام من السير قدمًا، فتجد نفسها غير قادرة إلاّ على الهرولة في الهواء، كما يفعل المهرجون، مهدرة طاقاتها، نازفة غذاءها، معرّضة نفسها للنقد والتقييم السلبي.

إن الثورة هي الأولى بالالتزام بالأخلاقيات التي اشتعلت من أجلها، وهي الأحرى بضبط سلوكياتها بقيم الحضارة التي تطالب بها، وإن لم ترتقِ لغة خطابها عن مستوى الأحذية، فلن توافق تطلعات الأجيال، وستغدو فارغة من محتواها الإنساني والقيمي والشعبي والقانوني، بل حتى معاجم اللغة ستحتار في شرحها وتفسيرها، ولن نجدها إلاّ حين نحذف التاء المربوطة آخرها.
ثورة الكرامة :هي التي يحكمها العقل بالالتزام بالأخلاقيات التي اشتعلت من أجلها بضبط السلوك
أما ثورة الذل :فهي التي تحكمها الأحذية بالانفلات الأمني من اعتداءات على الممتلكات العامة والخاصة
والتهجم على المؤسسات وكثرة السرقات وووووووو.


التعليقات

1) تعليق بواسطة :
16-07-2012 12:47 PM

مقالة رائعة لخصت لنا واقع الامة المرير وحقا كما ذكرت استاذه رابعه إن الثورة هي الأولى بالالتزام بالأخلاقيات التي اشتعلت من أجلها، وهي الأحرى بضبط سلوكياتها بقيم الحضارة التي تطالب بها، وإن لم ترتقِ لغة خطابها عن مستوى الأحذية، فلن توافق تطلعات الأجيال،نشكرك على هذا المقال النير الزاخر بالافكار المنطقية

2) تعليق بواسطة :
16-07-2012 11:35 PM

يا أُخت رابعة الشنّاق , أود أنْ أردَّ على سؤالكِ التالي باختصار " هل دخلت الاحذية معترك الحياة السياسية؟؟؟؟""
فأقول نعم !!!
أمـّا لماذا ؟؟
فلأنّ إعلامنا العربي الهابط قد طبّل وزمّر للمنهزم الزيدي !!
بل أنّ أحد الدهمـاء عرض مبلغاً محترماً من المال لشراء ذلك الحذاء !! وبعضهم قرر صِناعة تمثال له ويا ليته قرر التبرع بثمن الحذاء لإيواء أو إطعام عدد من الفقراء ...
فيا أُخت رابعة ,,
إذا كان نصيب من يستعمل الحذاء مثل نصيب الزيدي فلماذا لا استعمل أنـا كذلك حذائي ؟؟ واستغفر الله على هذا القول

أنا أُدرك إنّ ما حدث في الإستوديو أمر غريب ومستهجن ,, ولكن الإستهجان يأتي لكون الأداة المستعملة هو الحذاء ,, ففي البرلمانات الأُخرى تستعمل الكراسي وحتى في برلماننا جرى استعمال منافض السجائر وقوارير الماء,
ولاشك فإنّ ما جرى وما سيجري ما هو إلاّ "" إهانة العقل في معترك الثورة الإنسانية، ""
شكراً لك

3) تعليق بواسطة :
17-07-2012 09:48 AM

أعجبتني هذه القصة عن الحذاء وما له من دور لمكايدة الآخرين:
ففى صباح يوم شتاء شديد البرودة ، الساعة السابعة والنصف يدخل فريق مستشارى الرئيس إلى القصر الرئاسى المنيف ، يتوجهون سريعا صوب قاعة الاجتماعات الفخمة .
كل عضو من أعضاء المجلس الإستشارى يجلس فى مكانه المحدد ، يضع أمامه ملفه الخاص ، به أوراق ومستندات مهمة ، تحمل معلومات دقيقة ، سيعرضها على الرئيس .
كالمعتاد يجلس الأعضاء معاً قبل بدء الاجتماع بمدة طويلة ، لابد من الاستعداد النفسى ، إنهم يتهيأون لاستقبال الرئيس ، يرتبون أوراقهم ، ينسقون فيما بينهم ، يؤكدون عما سيتحدثون فيه ، يحذرون من الخروج على النص ، وإلا...
خارج القاعة الجميع على أُهبة الاستعداد ، الإضاءة ، المقاعد ، التكييف ... ، ليكون هذا الاجتماع حسبما يرغب الرئيس ، وإلا سمعوا أو رأوا ما يخشونه ، وأقله الطرد من قصر الرئيس بلا عودة ، وفى حالة غضب الرئيس يكون الطرد إلى مكان مجهول ، ربما لاتُرى فيه الشمس ولا تطؤه قدم إنسان .
فى الموعد المحدد فى الساعة التاسعة صباحا ، يدخل الرئيس مكتبه منتشيا فخورا كعادته ، تعلو وجهه ابتسامة ، الجميع فى انتظاره ، كل فى مكانه المحدد ، كل قام بما هو مكلف به على وجه الدقة .
الهدف الوحيد من هذا الاجتماع هو مناقشة التعديل الوزارى المرتقب ، مستشارو الرئيس سيقدمون له أسماء الوزراء المقترحين ولكل وزير أربعة بدلاء ، وأمام كل اسم مختصر لسيرته الذاتية ، يختار الرئيس من يريد ويرفض من يريد ، دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.
شرع كبير المستشارين فى عرض الأسماء الأساسية والاحتياطية لخمس وزارات ، لم يرد الرئيس واحدا من المرشحين الأساسيين ، لمعرفته الجيدة بتلك الشخصيات ، فقد تعامل معهم من قبل فى وزارات مختلفة.
ارتسمت على وجوههم ابتسامات عريضة ، لم يصدقوا أنهم انتهوا من اختيار خمسة وزراء فى توقيت قياسى.
استأنفوا عرض الأسماء المقترحة ، عرضوا اسم الوزير المرشح الأساسى لوزارة التربية والتعليم ، الذى ظنوا أن الرئيس سوف يوافق عليه ، دون أى مناقشة ، إنه كنزعظيم تفخر أى دولة بأن يكون هذا الرجل من مواطنيها .
السيرة الذاتية لهذا الشخص مختلفة ، يمتلك مواهب فذة ، ذكروا اسمه ، مؤهلاته ، خبراته، الرجل من أشهر العلماء عالميا فى مجال التربية والتعليم ، ترك أمريكا لأسباب خاصة - بعد أن قضى فيها ربع قرن - على الرغم من النجاحات الهائلة التى حققها هناك ، لم يوافقوا على رحيله إلا بعد إصراره .
ذكروا تاريخ ميلاده ، محل إقامته الحالى ، محل الميلاد ، غاب عن مستشارى الرئيس أن ذلك الشخص ينتمى إلى ذات المنطقة التى ينتمى لها الرئيس ، و كذلك فإن سنة ميلاده هى سنة ميلاد الرئيس .
فجأة تغير وجه الرئيس ، شرد ذهنه لبرهة ، تغير وجهه ، بدت عليه علامات الغضب الشديد، صرخ صرخة مدوية ، كأن سكينا اخترق صدره.
ما الأمر - سيادة الرئيس - ؟ (على استحياء سأل كبير المستشارين) .
لم يرد عليه الرئيس .
سيطر السكون على المكان ، لم يجرؤ أحدهم على أن ينطق بكلمة .
مرت بضع دقائق ، بصوت جهورى نطق الرئيس : احضرو لى هذا الشخص حيا أو ميتا الساعة الثانية والنصف بعد متنصف هذه الليلة .
تركهم الرئيس دون أن يخبرهم بفض الاجتماع .


"2"


على صوت الرئيس المدوى هُرع إلى قاعة الاجتماعات كبار رجال القصر ، استدعوا قادة الأجهزة الأمنية المختلفة ، أربع جهات أمنية شاركت فى وضع التقارير الأمنية عن جميع المرشحين للوزارة ، أساسيين كانوا أم احتياطيين ، ومن هذه التقارير قُدم للرئيس مختصر السيرة الذاتية لكل مرشح .
كل من له صلة بهذه التقارير أصابه الفزع والخوف ، مما قد يحدث له، نتيجة هذه السقطة الكبرى ، تبادلوا الاتهامات ، كل يلوم الآخر ، كل ينفى تقصيره ، بعد مدة زمنية ليست طويلة ، ذهبت آثار الصدمة ، اتفقوا على مناقشة الأمر بموضوعية ، توصلوا بعد مناقشات طويلة إلى أن أحدهم لم يقصر ، أجمعوا على أنهم سيتحملون المسئولية معا ، وليكن ما يكون .
الأمر فيه سر ، لايعرفه أحد من البشر إلا الرئيس ، ومع ذلك فسوف يتأكد كل منهم من المعلومات التى وردت فى تقريره .
سريعا وبعد أقل من ساعتين ، اجتمعوا مرة أخرى ، أكدوا جميعا أن الشخص المطلوب إحضاره حيا أو ميتا ، ليست له انتماءات دينية أو إيديولوجية أو سياسية ،إلا أنه رجل حقق فى حياته نجاحات منقطعة النظير .
قال بعضهم لبعض : ربما تكون هذه النجاحات هى مشكلته الكبرى ، وعلينا أن ننفذ الأوامر طاعة للرئيس ، أمروا قوات الأمن بإحضاره فورا.


"3"


بعد تناوله وجبة العشاء جلس الدكتور "أسعد" وسط أفراد أسرته ، فى الطابق الثانى من الفيلا التى يمتلكها ، بأحد الأحياء الراقية وسط العاصمة ، أثناء متابعتهم نشرة الأخبار ، علموا أن الإعلان عن التشكيل الوزارى الجديد سيُعلن عنه خلال ثمانى وأربعين ساعة .
بصورة عفوية سأل الابن الأصغر: ماذا ستفعل يا أبى لو عرضوا عليك منصبا وزاريا ؟ . لم يفكر الدكتور "أسعد" طويلا فى الرد .
أجاب : بالطبع سأرفض .
ولماذا يا أبى ؟( سأله ابنه مرة أخرى) .
أجاب الأب : يا بنى ...السياسة فى بلادنا شعارها " سمك - لبن - تمرهندى" ، لو أصبحت وزيرا فسوف أكون بمثابة سكرتير للرئيس أنفذ أوامره ، حتى ولو غير منطقية ، فى بلادنا المهم ارضاء الرئيس لا ارضاء الضمير.
بنبرة حزينة أكمل الأب حديثه قائلا : يا بنى... العالم من حولنا يتقدم ونحن فى تقهقر ، أتعرف لماذا ؟ ، لأننا نعرف طريق التقدم ولا نسير فيه ، ونعرف أننا نسير فى طريق الفشل ونصر على عدم التراجع .
فى بلادنا الرئيس يهدم كل ما قام به سلفه وكذلك الوزير ، ليست لنا سياسات واضحة...
لم يكمل الرجل حواره مع ابنه ، فوجىء مع باقى أفراد الأسرة بمكبرات الصوت تنادى : على الدكتور أسعد الحضور أمام باب منزله فورا ودون تأخير، وإلا سنقتحم المكان ، خمس سيارات مصفحة محملة بالجنود المددجين بالسلاح ، بصحبة العديد من قيادات أمنية ، تحيط بالفيلا من جميع الجهات ، دون أن يُغير الرجل ملابسه خرج ، وهو لا يكاد يصدق ما يجرى.
اقتادوه بلا احترام أو تقدير لمكانته العلمية أو الأدبية ، دون النظر لحالته الصحية أو لكبر سنه ، الرجل يكاد يصاب بالجنون ، لا يدرى ما السبب فيما حدث ، ومهما حدث فهل هذه هى الطريقة اللائقة لاستدعائه لأى جهة ، لم يخبره أحد عن السبب وراء هذا الهجوم التترى ، بل لم يحدثه أحد من الأصل .


"4"


فى إحدى الغرف الضيقة المظلمة ألقوا به، بعد أن غطوا عينيه بعصابة سوداء ، تركوه لأكثر من ساعة ، أصابته قشعريرة ، الجو شديد البرودة كأنه يجلس عاريا فى شارع من شوارع موسكو .
مازال الرجل مندهشا مما يحدث له ،عاش أكثر من ربع قرن فى أمريكا لم يرَ ما يراه الآن ، تذكر ما كان يقرؤه عن وحشية التعذيب التى يلاقيها المعارضون للنظام فى بلاده ، لكنه لم يشارك هؤلاء المعارضين ، لم يلتقِ بأحدهم ، لم يراسل واحدا منهم ، ماذا جرى ؟ .
فجأة فُتح باب الغرفة ،سمع صوت خطوات تقترب منه شيئا فشيئا، فاذا بشخص يقف أمامه، يوجه له الحديث قائلا : يادكتور نحن نأسف لما حدث لك ، وهذا الأمر خارج عن إرادتنا ، إننا نعلم عنك كل صغيرة وكل كبيرة ، ونحن متأكدون من أنك لا تعادى النظام ، ولست من المعارضين ، بل ولا تعتنق أية توجهات سياسية مخالفة لنا .
رد عليه الدكتور " أسعد" بصوت خافت : إذاً أين هى المشكلة ؟ .
قال : لم تكن لك مشكلة مع أحد ، ولكن واضح أن لك مشكلةً مع سيادة الرئيس نفسه ، نحن لا نعرفها ، ولم يخبرنا بها ، وهذا هو سبب المجىء بك ، فلتخبرنا عنها .
تحدث الدكتور "أسعد" بصوت مرتعش : أنا ليس لى مشكلة مع أحد من البشر ، لا مع الرئيس ولا مع غيره ، ولم تربطنى فى يوم من الأيام علاقة بشخص الرئيس ، لا من قريب ولا من بعيد ، اللهم إلا أنه كان زميلا لى فى التعليم الأساسى ، طفلان فى فصل واحد ، لمدة ثلاث سنوات ، قضيتها فى قريتى ، ثم انتقل أبى بأسرتنا كلها إلى العاصمة ، ولم تعد لى علاقة بقريتى إلا فى المناسبات فقط ، ولم أعد أتذكر شيئا سوى أسماء التلامذة زملائى فى الفصل ، ومنها اسم الرئيس خماسيا .
تنهد قليلا ثم استأنف حديثه ...
وعلمت كما علم الناس باسمه يوم تولى حكم البلاد ، ومرت الأيام والسنون ولم ألتقِ به فى يوم من الأيام ، ولم أسعَ للقائه ، لم أتفاخر بزمالتى للرئيس أمام أى شخص حتى أبنائى .
الشخص المجهول الذى يسمعه الدكتور "أسعد" ولا يراه هو الوحيد الذى تحدث معه بأسلوب فيه شىء من الاحترام ، هذا الشخص فى نهاية حواره معه حاول أن يُهدئ من روعه ويطيب خاطره ، أخبره بأنه سيقابل الرئيس بعد أقل من ساعة بملابسه التى حضر بها ، وقد صارت رائحتها كريهة ، حذره من الخروج على النص.
إذا دخلت على الرئيس فلا تتكلم ، إلا إذا طلب منك الكلام أو سألك سؤالا ، التزم بتوجيهات رجل الأمن المرافق لك ، ولا تضعنا وتضع نفسك فى مواقف محرجة ، ختم الرجل حديثه معه ، تركه وحيدا فى الغرفة وخرج .


"5"


اقترب الوقت من الساعة الثانية والنصف صباحا ، كان الدكتور " أسعد" قد أُصيب بالإجهاد والتعب من كثرة وقسوة ما تعرض له من مواقف مهينة ، ساءت حالته النفسية ، لم يُصب من قبل بمثل هذه الإهانات التى تعرض لها هذه الليلة ، لم تنسه هذه المواقف اللاإنسانية القاسية التفكير فى أسرته ، إنه قلق على زوجته وأولاده ، ماذا حدث لهم ؟، هل يُفعل معهم ما يُفعل معى الآن ؟ ، هل يتعرضون لمثل هذه المواقف المهينة كما أتعرض لها ؟ أسئلة ظلت تراوده فى ذلك الوقت العصيب.
وجاء الموعد ، موعد لقاء الرئيس ، ولكنه لقاء مختلف ، الرئيس هو الذى طلبه ، وحده سيلتقى بالرئيس دون أن تُنصب الكاميرت لتصوير اللقاء ، حتى الملابس ليتها غير لائقة وفقط ، لكنها ملابس رثة قذرة ، ليست من قيمة الرجل العالم .
بعد أن رفعوا العصابة عن عينيه ، أدخلوه إلى غرفة واسعة ، إضاءة خافتة فى مدخلها ، وفى آخرها يظهر من بعيد رجل يجلس على مقعد ، يمد رجليه على منضدة صغيرة منتعلا حذاءً فخما ، الأضواء الشديدة مسلطة صوب الحذاء بصورة مركزة .
على الرغم من الارتباك الذى تملكه ، إلا أنه تذكر ماركة هذا الحذاء ، إنها الماركة الأمريكية الشهيرة ، تذكر ثمنه ، الذى يقارب العشرين ألف دولار أمريكى.
أدار عينيه بعيدا عن الحذاء ، ليرى منتعله ، تبين بكل وضوح ، إنه فخامة الرئيس ، التقت عيناه بعينيه ، لجزء من الثانية ، نظر إليه الرئيس نظرة استعلاء ، لم يعره اهتماما ، همت نفسه بالكلام ، يرغب فى أن يشكو للرئيس ما حدث له من إهانات ، لكنه تذكر وصايا الرجل الذى تحدث معه ولم يره.
بعد أن تأكد أن الزائر قد رآه رأى العين ، أشار الرئيس بيده لرجل الأمن المرافق للدكتور " أسعد" ، إشارة تفيد بأن أخرجوه فورا ودون تأخير ، لم تدم تلك المقابلة سوى دقيقتين أو أقل.


"6"


فى تمام الساعة الثالثة إلا ربع فجرا ...ألقوا بالدكتور "أسعد" بعيدا عن القصر الرئاسى ، بما يزيد عن مسافة ثلاثة كيلومترات .
وجد نفسه وحيدا ، فى مكان بارد موحش ، يكاد لا يرى شيئا ، المكان يكسوه الظلام الدامس والصمت المرعب .
قال لنفسه : من الممكن أن أموت هنا ولا أحد يرانى أو يعرف بوجودى ، وليس معى هويتى الشخصية .
أحس بالدوار، ثارت نفسه للقىء ، كاد يفقد توازنه ، حاول أن يلملم أشلاء نفسه ، التفت يمينا والتفت يسارا ، عسى أن يجد سيارة تقله إلى بيته ، ليس معه مال ، لا يوجد معه رفيق ، ملابسه التى لم يسمحوا له بتغييرها ، باتت وكأنها ملابس شحاذ ، أو ملابس مجنون يسير هائما على وجهه فى الشوارع .
وقف فى عُرض الشارع أكثر من ساعة ، يعانى من قسوة البرد القارس ، من شدة الخوف ، ثم جاءت سيارة ، اصطحبه قائدها معه ، بالطبع لم يعلم حكايته ، وإلا ما أركبه سيارته.
كانت الأسرة فى انتظاره ، قلق ورعب و خوف ، أجروا اتصالات كثيرة بالعديد من الأقارب والأصدقاء ، من ذوى المراكز المرموقة والمناصب الكبرى فى البلاد ، غير أن جميعهم لم يردوا ، إلا واحد منهم أجاب على استحياء ، تحدث بصوت خفيض مرتجف وقال : إن الموضوع أكبر منه ، ولا يستطيع أن يفعل شيئا ، وإلا أُطيح به من منصبه ، وأُلقى به فى المكان المعتاد للمغضوب عليهم من النظام.


"7"


أمام باب الفيلا ، الزوجة والأولاد ينتظرون ، لم يناموا ليلتهم ، وكأنهم كانوا يشاركون الأب مأساته ، التى عاشها وحده الليلة الفائتة ، ظلمة ما بعد الفجر تودع الكون ، تلفظ أنفاسها الأخيرة ، بدأ ضوء النهار يتجلى ، يبدد تلك الظلمة حتى يستطيع بقدر الله أن يمحوها ، فيرى الناس بعضهم بعضا .
لم يمر وقت طويل ، رأوا شبح رجل خمسينى يتجه صوبهم ، تدريجيا استطاعوا أن يتعرفوا عليه ، إنه الدكتور" أسعد" ، هُرعوا جميعا إليه ، بمجرد أن وصلوا إليه أُغمى عليه ، سريعا طلبوا له سيارة الإسعاف ، انطلقت به إلى المستشفى ،إلى غرفة العناية المركزة أدخلوه.
مرت ست ساعات طوال ، والرجل ما بين الحياة والموت - كما قال الأطباء عن الحالة - ، تدريجيا تحسنت حالته ، اطمأنوا عليه ، نقلوه إلى إحدى غرف المستشفى ، دخل عليه أفراد أسرته ، لم يكلمهم ، ولم يرد عليهم إلا بالإشارة بيديه ، رغم قدرته على الكلام .
الموقف ليس موقف كلام ، ولكنه موقف تفكر وتدبر ، ماذا حدث لى ؟ ولماذا حدث ؟ ولماذا معى أنا بالذات ؟ ، ولماذا حدث ذلك الآن ولم يحدث من قبل ؟ ، وما معنى قولهم : " إن مشكلتك مع الرئيس نفسه ؟ " ، وماذا فعلت أنا مع الرئيس ؟ ظلت هذه الأسئلة تدور فى رأس الدكتور "أسعد" بضع ساعات دون أن يجد لها إجابات .
مازال يفكر ويعيد التفكير ، يتذكر ويعيد التذكر من جديد ، يتذكر أول يوم رأى فيه شخص الرئيس وهو طفل صغير ، تلميذ فى المدرسة ، فى التعليم الأساسى ، ينقب عن المواقف التى ربما نتجت عنها مشكلة مع هذا الطفل الصغير ، ربما اعتدى عليه بالضرب ، أو أصابه بسوء وهو غير متعمد .
مازال يعصر تفكيره ويجهد عقله ، أملا فى الوصول إلى موقف أغضب الطفل الصغير الذى مرََّ أكثر من أربعين عاما ، ولم يذهب عنه غضبه .
أربعون عاما أو أكثر مدة زمنية طويلة جدا ، كيف يستطيع الإنسان أى إنسان ، ولو كان عبقريا أن يُرجع الذاكرة إلى الوراء كل هذه المدة ، ليأتى بموقف بين طفلين صغيرين .
فجأة نطق الرجل بصوت جهورى ، كاد يزلزل مبنى المستشفى : " يوريكا " كما صدع بها " آرشميدس"- أى وجدتها - عندما توصل إلى قانون الطفو، ماذا وجدت يا دكتور "أسعد" ؟ (سأله كل من حوله فى الغرفة ).
تحدث بهدوء وبصوت خفيض دون انفعال وقال : تذكرت ذلك الموقف الذى حدث بينى وبين الرئيس وهو طفل صغير ، عدت إلى المدرسة بعد أن قضينا الإجازة بمناسبة أحد الأعياد ، وأثناء وقوفى معه فى فناء المدرسة ، قلت له : انظر إلى حذائى الجديد لقد اشتراه لى أبى بمبلغ كبير ، هذا الحذاء لا يلبس مثله أحد من التلامذة فى المدرسة ، هذا ما قاله لى أبى ، عندها تمتم بعض الكلمات التى لم أسمعها ، تركنى مبتعدا عنى ، وهو ينظر إلى حذائه القديم المهترىء ، تركنى وأنا لا أفهم لماذا تركنى ؟ .
صمت الدكتور "أسعد" برهة ثم استأنف حديثه قائلا : الآن أتذكر أن الموقف لم ينتهِ عند هذا الحد ، وإنما استمر حتى دخلنا الفصل ، فإذا به يشكونى إلى المُدرسة أننى قد تفاخرت عليه بحذائى الجديد ، وأننى قد عايرته بحذائه القديم المتهالك ، الأمر الذى لم يحدث ، نفيت للمدرسة مزاعمه أمام التلاميذ ، صدقتنى المدرسة وكذبته ، وسط ضحكات زملائنا ، ومن يومها ابتعد عنى ولم يكلمنى مرة أخرى

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012