أضف إلى المفضلة
الأحد , 28 نيسان/أبريل 2024
الأحد , 28 نيسان/أبريل 2024


والأحباءُ الأحباءُ قليلاً ما أقاموا

بقلم : د . منذر حدادين
07-01-2023 05:02 AM

ارتحل من الياروت إلى الكرك ليلتحق بمدرسة التجهيز هناك وكانت المدرسة الوحيدة في الجنوب يقصدها أبناؤه، بعضهم تكون وسائل انتقالهم من الطفيلة وقراها إلى جرف الدراويش دواباً اعتادوا ركوبها، ثم يستقلون القطار بعد انتظار ليصلوا القطرانة ليواصلوا انتقالهم إلى الكرك بالاعتماد على مزيج من قوائم الدواب وقوائمهم حتى يصلوا عاصمة الجنوب. وفيها يواصلون شظف العيش كي يتعلموا. وبعد التجهيز انتقل هذا الحبيب موضع حديثنا إلى السلط حيث المدرسة الثانوية الوحيدة ويسكن في غرفة، مستأجرة بها صوبة حطب لتدفئتها شتاء، مع شقيقه الأكبر سناً عبدالوهاب وصبي يطاولهم سناً هو المرحوم معالي عبد خلف داوودية طيّب الله ثرى ثلاثتهم.

يتضح من السرد أن الحبيب هو دولة الدكتور عبدالسلام عطالله المجالي الذي التحق بعد السلط بالجامعة السورية (دمشق لاحقاً) وكانت البيئة الجديدة أخف وقعاً عليه من وقعها على غيره من الأردنيين، ذلك لأن أمه من عائلة سورية أغنتهم، إخوة وأخوات، عناء الانتظار لفهم اللهجة السورية أو عادات أهلنا في الشمال.

كان الفتى الكركي كما هم الكركيون على إطلاق مشاربهم عروبياً غيوراً على ما يخدم وحدتهم العرب، هصوراً في منازلته أعداءهم. فتواصل مع نخبة عروبية في حرم الجامعة وتداولوا ثم أقدموا على تأسيس حزب البعث العربي عام 1946 وكان فيهم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وسواهما، وهو ما زال طالباً في كلية الطب هناك. وحيث أن لزوميات أخرى جعلته يتأخر عن تقديم فحص نهائي أو اثنين عام 1948 عاد إلى الأردن والتحق بالجيش العربي في صيف ذلك العام ولما يستحق شهادة التخرج بسبب تأخره في تقديم امتحان أو اثنين.

ما أن تمنطق عبدالسلام عطالله المجالي البدلة العسكرية حتى استقل مع زملاء له سيارات الجيش العربي وإذ هو في قاعدة لذلك الجيش الأشم في ضواحي بيت حنينا بفلسطين، وكان الاشتباك مع الغزاة في عزه بعد الهدنة الأولى. وبعد أن استقر الأمر باتفاق الهدنة في نيسان 1949 تسنى للضابط عبدالسلام المجالي العودة إلى الجامعة وإنهاء متطلبات التخرج وعاد للبلاد طبيباً أردنياً في الجيش العربي يشار إليه بالبنان.

ولست بصدد سرد سيرته الذاتية فقد وردت في الصحافة الأردنية بغزارة، لكن ذكاءه وفطنته جعلت من دخل الجيش العربي لقاء اشتراك بعض كوادره في إخراج فيلم «لورنس العرب» خميرة التمويل لبناء مدينة الحسين الطبية في «آخر ما عمّر الله» أي بعيداً عن أطراف مدينة عمان العاصمة، وتم بناؤها وتوسيعها بمرور الزمن ومساهمات الخزينة ومساعدات الدول الصديقة.

تعرفت على «معالي الدكتور عبدالسلام المجالي» في ربيع عام 1971 وزيراً في حكومة دولة الرئيس وصفي التل التي شكلها في ديسمبر 1970، وكان معاليه وزير دولة لشؤون الرئاسة وكنت مدير دائرة في الجمعية العلمية الملكية حديثة النشأة. وتسنى لي أن أقترب من معاليه أكثر عندما أصبح عضواً في مجلس أمناء الجمعية العلمية الملكية وهو رئيس للجامعة الأردنية عام 1972. وحظيت بالاشتراك مع لفيف من أساتذة الجامعة الأردنية في تأسيس كلية الهندسة بالجامعة بعد أن انتهى معاليه من خطوات تأسيس كلية الطب فيها. وجهدنا في موازاة جهده إلى أن تأسست الكلية وبدأت أعمالها. واتخذ «معاليه» الخطوات الجريئة لتأسيس كلية الزراعة قبل أن يعود إلى الحكومة ويعمل بمعية دولة مضر بدران وزيراً للتربية والتعليم. وكان لي اتصال بمعاليه لتنفيذ ما خططنا له في تطوير البنية التحتية للتعليم في وادي الأردن إذ كنت انتقلت من الجمعية العلمية الملكية عام 1973 إلى هيئة وادي الأردن حديثة التأسيس. ثم راقبت عودة معاليه إلى رئاسة الجامعة الأردنية ثانية في أوائل الثمانينات من القرن الماضي. وتشرفت بالاشتراك معه ومع رؤساء الجامعات الأردنية الرسمية عام 1984 برحلة مهنية إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية برئاسة سمو ولي العهد. وللشباب مثلي آنذاك حظٌ وفيرٌ أن يكونوا بمعية معاليه وسماع عروضه احتياجات الجامعة الأردنية ونقاشاته المقنعة حيالها مع الجهات المانحة.

وبعد انحسار أزمة الاحتلال العراقي للكويت وتحريره، أعلن الرئيس الأميركي في خطابه «حالة الاتحاد» بالكونغرس في فبراير من العام 1991 عن بدء تشكيل نظام عالمي جديد كان نصيبنا منه تصميم الولايات المتحدة ومعها القوى العالمية على بدء عملية هدفها تحقيق السلام في الشرق الأوسط. وبذل وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر جهداً ممتداً للوصول إلى نتيجة وبنى اقتراحاته على ما انتهت إليه جهود أسلافه جورج شولتز وسواه. ولم يجد ملك البلاد المغفور له الملك الحسين قائداً للوفد الأردني للمفاوضات الثنائية أكثر مناسبة وكفاءة وحرصاً من معالي الدكتور عبدالسلام المجالي.

وحظيت هذه المرة بالعمل في معية معاليه وتحت قيادته قرابة عامين كان لهما أثرٌ واضحٌ في فهمي الاستراتيجي وفي ممارسة سعة الصدر وضرورة التحوّط وأخذ الحيطة والحذر من ما قد يقدم عليه الأعداء. وكان لي ولغيري جولات خلافات متقطعة وغير متزامنة مع معاليه مردها تباين الاجتهادات والتوقعات، لكن حكمته وسعة صدره كانتا مصدر اطمئنان لنا فركنّا دائماً إلى قيادته.

كانت جولات المفاوضات في واشنطن محاولات متبادلة لجس النبض حتى انتهى المطاف بوفدنا، بعد خمسة أشهر من الشد والجذب بيننا وبين الوفد الإسرائيلي، إلى اقتراح جدول أعمال للتفاوض حرصنا أن تعني عبارات جمة فيه مآل التفاوض عليها. وأمضينا أربع جولات من التفاوض على جدول الأعمال ذاك، ولن أنسى ثورة معاليه على تجاوز رئيس الوفد الإسرائيلي أصول التعامل عندما انتقد لبنان بشدة بخصوص شأن أثرته أثناء التفاوض. هب معاليه نصرة للبنان بكيفية لم آلفها عنه وأصر على رئيس الوفد الإسرائيلي أن «يسحب كلامه» المرفوض عن لبنان، ثارت ثائرته ثم أطفأها بالخروج من صالة التفاوض بدعوى قضاء الحاجة الطبيعية، وترك الأمر لي ولم يعد!

أمضيت برفقة الأستاذ عون الخصاونة قرابة ثلاث ساعات حاسمة، تخللها توظيف أقصى درجات الذكاء والحنكة، توصلنا في نهايتها إلى اتفاق على جدول الأعمال المشترك يوم 27 أكتوبر 1991 أي قبل حلول ذكرى عقد الجلسة الدولية لبدء مؤتمر السلام في مدريد بأيام قليلة.

ولنا في حقبة المفاوضات قصص وعظات أودعتُ تفاصيلها في كتاب باللغة الأعجمية من تأليف الدكتور المجالي والدكتور جواد العناني وكاتب هذه السطور بعنوان:

“Peacemaking, The Inside Story of the 1994 Jordanian- Israeli Treaty”

مع مقدمة للكتاب بقلم سمو الأمير الحسن بن طلال أطال الله بقاءه، ونشرته دار النشر Ithaca Press عام 2006. ومع أن انفصام كامل بين الوفد الأردني والوفد الفلسطيني الذين كانا وفداً مشتركاً قبل اتفاق أوسلو، إلا أن للدكتور المجالي رؤىً في إحلال السلام طرحها في محافل فلسطينية وإسرائيلية وسمع موافقات من رسميين في صفوف الطرفين. وقوام رؤياه هو إعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة وفق ما يتفق عليه الفلسطينيون والأسرائيليون، وقبول الدولة الفلسطينية عضواً كاملاً في الأمم المتحدة يصار بعدها إلى تفاوض أردني فلسطيني لإبرام اتحاد هو ما بين الفيدرالية والكونفيدرالية بين دولة الأردن والدولة الفلسطينية الوليدة يترأس دولة الاتحاد ملكٌ هاشمي وتأخذ حكومة الاتحاد زمام إدارة شؤون الدفاع والخارجية والتخطيط والمالية والتربية والتعليم. ورافقتُه يعرض رؤيته على القيادات الإسرائيلية والفلسطينية وسمعت موافقة هذه القيادات على الاقتراحات، حتى أن شيمون بيريز نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أبدى الاستعداد لإخلاء 96% من أراضي الضفة الغربية المعروفة قبل حرب حزيران الكارثية. إلا أن نتانياهو الذي تقلد منصب رئيس الوزراء في خريف 2006 قلب للمقترح ظهر المجن بعد أن كان وافق عليه في الربيع من العام ذاته.

ولا يستقيم الأمر دون ذكر أدائه رئيساً للوزراء مرتين، شاركت في المجلس الذي ترأسه عام 1997 ولدولته في الأداء كرئيس للوزراء مآثر ومناقب، لعل منها التعامل مع الوزراء وكأنه رئيساً لمجلسهم وليس رئيساً لهم، إذ كان يحمل كل وزير مسؤولية ما يجري في وزارته بالرغم من صدور قرارات من مجلس الوزراء بالموافقة على ما يطلبه الوزير. ولعلي أقرب من تفهم من الوزراء طبيعة وأسباب تكالب أطراف محلية، وخيوط ارتباطاتها، على حكومة دولته الثانية ما أدى إلى تنحّيه عن تحمل المسؤولية وتهدئة الأوضاع التي اصطنعوها وأججوها. لكن الموضوع هذا ليس مما نطرقه هنا.

وأتساءل: هل قدرُ بلدِنا أن يودع قامات عالية في ميادين السياسة والأكاديميا والمهنية والاقتصادية دون أن يتاح له استقبال «مشروع قامات» ترث الأولى وتواصل البناء، وتردد ما قاله أبو جهمة المتوكل الليثي:

إنّا وإن أحسابَنا كرُمت لسنا على الأحسابِ نتّكلُ

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا

وأردد للماضين الأشاوس منا قولَ شاعرنا الموهوب، زميلي في كلية الحسين، المرحوم تيسير رزق السبول من معارضته لرباعيات الخيام وقد استعرت من كلماته عنواناً لرثائي هذا:

نخب ذكراهم، على أرواحهم منا السلامُ

الأحبّاءُ الأحبّاءُ قليلاً ما أقاموا

دارت الكأس عليهم دورةً أو دورتين

وهوت حبّاتهم تترى ومالوا ليناموا

ولقد ألفنا دورة الكون وأن البداية تلازمها نهاية ونأسف أن قاماتنا لا تدوم شخوصها لذخر الوطن بل تدوم سيرتهم وأفعالهم، وقال أسلافنا «اللي خلّف ما مات».

رحم الله دولة الرئيس عبدالسلام عطالله المجالي وأسكنه فسيح جنانه، وأبقى شبليه العزيزين سامر وشادي وعوّض الله وطننا أشباه من فقدناه إنه سميع مجيب.

(الراي)


التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012