أضف إلى المفضلة
السبت , 04 أيار/مايو 2024
السبت , 04 أيار/مايو 2024


قاسم الريماوي ..

بقلم : د. صبري اربيحات
20-04-2024 03:37 PM

قليل من الناس يتذكرون دولة الدكتور قاسم الريماوي. فقد كلف برئاسة الحكومة الاردنية لفترة لم تتجاوز الشهرين. كان ذلك في صيف عام ١٩٨٠ وبعد ان توفي المرحوم عبدالحميد شرف الذي كان رئيسا للحكومة الاردنية التي شكلت في أواخر عام ١٩٧٩ وكان الريماوي الوزير الأقدم وزيرا للزراعة فيها..

اليوم عرض الصديق نضال الدلقموني على صفحته الالكترونية صورة للمرحوم الدكتور الريماوي من ألبومه الغني بالوثائق والصور التاريخية التي ورث الكثير منها عن والده المرحوم فضل الدلقموني. لقد اضاف الاستاذ نضال لهذا الكنز من الصور الكثير من الوثائق التي تأخذنا الى الحقب والمفاصل والاحداث الهامة في تاريخ بلدنا فشكرا له على هذا الاثراء.

ما ان نظرت الى الصورة حتى اشتعل في صدري الحنين الى ايام السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي يوم كان الامل والحب والصدق يملاء الفضاء ونكاد ان نستنشقه مع كل نسمة.

بلا توقف او عناء انثالت الذاكرة المشبعة بالصور والذكريات والمواقف عن هذه الشخصية الفذة والغنية بالفكر والمباديء والعطاء الذي استقر اثره في العقل والقلب والوجدان ...فهو منارة في سماء العروبة ونموذج من الرجالات التي لم تبدلها الايام ولم تغريها المظاهر .

عاش المرحوم الريماوي حياته مناضلا وسياسيا ومفكرا كان متواضعا كالعشب صادقا كالشمس مخلصا واضحا وفيا... كان يستهل عمله اليومي كوزير بلقاء الناس والاستماع الى مطالبهم ينتظر سائقه على كرسي قش أمام البقالة ومصبغة الملابس المجاورة لبيته المتواضع جدا في جبل الحسين .

بالرغم من ان المرحوم الدكتور قاسم الريماوي كان احد أقرب الشخصيات العربية للنضال الحقيقي الذي ترافق فيه مع المرحوم وصفي التل في جيش الإنقاذ وانتخابه مرارا كنائب في مجالس النواب الاردنية عن الضفة الغربية ...وبالرغم من انه شارك في حكومة دولة وصفي التل في ستينيات القرن الماضي الا انه بقي شخص لا يحب الاضواء ولا يعرف غير لغة العمل والانجاز .

في خريف عام ١٩٧٣ التحقت ومجموعة كبيرة من الزملاء بالجامعة الاردنية فقد تبنت الجامعة الام في ذلك العام برنامجا جديدا يتيح لكل الأوائل في المحافظات والالوية القبول في كلياتها مع إمكانية الحصول على بعثة دراسية ...لقد كانت اولى التجارب لي ولبعض الزملاء في لقاء الطلبة الذين جاءوا من مختلف ارجاء البلاد ومن الضفتين والمرة الأولى التي نجلس فيها على مقاعد منفصلة بجوار الصبايا الجميلات والشباب الذين اطالوا شعر رؤوسهم .كنت منهمكا بربط اسماء العائلات والعشائر بالبلدات والمدن والقرى .

كان من بين الطلبة نفر قليل ممن لا زالوا يرتدون الكوفية والعقال لقد كان صالح الحجايا يتنقل بين مباني الكليات كشيخ قبيلة يفض النزاعات وينثر الحكم ويحمل دفترا واحدا يدون عليه اشياء مختلطة كنا نجالسه على مسطح النجيل الاخضر ونلتقط الصور بكاميرا المصور ابو ماهر ...

كان صالح وكوفيته يذكرانا بأجواء القرية ويعيدا لنا التوازن عندما يشتد حنقنا ونحن نرمق طالبات وطلاب الmilk bar ... كان صالح يكبرنا بعامين ويدرس اللغة العربية ويرى انه ينتمي الى جيل الأساتذة اكثر من ارتباطه بالطلبة فلا يدخل القاعة الا بصحبة الاستاذ وهو منهمك في نقاشات مع الأساتذة معظمها لا يتعلق بموضوع الدراسة ..

حديثي عن صالح الحجايا ابن بلدة الحسا الذي عرفته في مدرسة الطفيلة الثانوية مقدمة لحديثي عن الظرف الذي عرفت فيه الدكتور المرحوم قاسم الريماوي .

في صيف عام١٩٧٥ ولا اعرف كيف وجدت نفسي متورطا في تسجيل مادة مؤسسات اجتماعية التي يدرسها الدكتور قاسم الريماوي .كانت القاعة المخصصة للمادة في مبنى اللغات الذي شيد حديثا وكان موعدها الثامنة صباحا وكان غالبية من سجلوا المادة طالبات باستثناء صالح وانا وأربعة زملاء اخرين جلسوا في زوايا الغرفة الصفية ..

لم يتغيب الدكتور الريماوي عن حصة واحدة ولم يعنى باخذ الحضور والغياب وكان يمضي وقت المحاضرة مستمعا الى العروض التي يقدمها الطلبة لاوراق بحوثهم ومداخلات صالح الحجايا التي تحضر مشاريع التنمية الى غرفة الصف ..كان صالح الحجايا يقدم صورة البادية والريف وقضايا معاناة المواطن الاردني وتطلعاته الى غرفة الصف المكتظة بطالبات جئن بسياراتهن الفارهة لمادة لا يهتم استاذها كثيرا لمسألة الحضور والغياب.

لا زلت اتذكر حجم الضجر والتأفف الذي يعم القاعة في كل مرة يستأنف فيها زميلنا الحجايا حديثه عن المشاريع الاقتصادية وتوطين البدو وخدمات الطرق والنقل والتعدين..كان المرحوم الريماوي يستمتع بهذا النمط من النقاش ويستثيرنا للدخول والاسترسال في الحوار حول التصنيع والتحول والتنمية وكان يرمقنا بمحبة واحترام يرقيان الى حد الاعجاب.

في ذلك المساق الذي ناقشنا خلاله عددا كبيرا من الأوراق البحثية عن مختلف المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية وبحثنا في هياكلها ونشأتها ووظائفها وادوار أعضاءها وبفضل تشجيع قاسم الريماوي كنا نستمتع بالوقوف أمام الطلبة بعدما تجاوز معظمنا رهبة مواجهة الجمهور.

بعد تخرجي من الجامعة انخرطت في برنامج الدراسات العليا في اصول التربية وقد حظيت بشرف التلمذة على يديه فقد درست معه مادتين هما اقتصاديات التربية واظن ان الأخرى في الاجتماع التربوي ...كان الريماوي٠ يمنح لطلبته مساحات شاسعة من التفكير والتعبير ويطرح أسئلة قصيرة تبدو على هيئة اختبارات فطنة وذكاء وكثيرا ما ترقص شفتاه فرحا عندما يصادف اجابة تنم عن ذكاء حاد او عقلية واعدة.

لقد شجعني المرحوم الريماوي على استكمال دراستي العليا وهمس في اذن احد صناع القرار بقول حسن عني وتشرفت بأن كتب لي رسالة توصية الى جامعة جنوب كالفورنيا الامريكية التي التحقت بها.

في عام ١٩٧٩ ادخل عبدالحميد شرف انعام المفتي الى حكومته كأول امرأة تشغل منصبا وزاريا في الاردن . وابان خدمة الريماوي كوزيرا للزراعة كان احد أبرز الذين بنينا عليهم الامل لتجديد نهضة البلاد فقد تبنى سياسة ترشيد الاستهلاك واسست حكومتهم مكتب للشكاوي في رئاسة الوزراء وتجددت منهجية وصفي التل في الاشتباك مع قضايا المجتمعات وحلها ميدانيا.

صحيح ان الحكومة لم تعمر طويلا وصحيح ان الأيام تبدلت ورحل عبدالحميد شرف ومن بعده قاسم الريماوي لكنهما قدما للاردن ولاسميهما الكثير من الانجاز الذي لا ولن تمحوه الأيام.

رحم الله قاسم الريماوي وعبدالحميد شرف وصفي التل وهزاع المجالي وكل رجالات الاردن وشهداءه.

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012