سلطة ألأفذاذ دائماً يخالطها الندم الذي يُطامن من غلوائها، مثلما الزهد يُطامن من غلواء الجشع، ذلك أن من أظرف ما وقعت عليه عيني في بعض الكتب، أن جبلة بن ألأيهم كان ملكاً نصرانيا من ملوك غسان فأسلم فسُرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً، فلما دخل موسم الحج ... حج عمر وخرج معه جبلة ... فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة ... فالتفت إليه جبلة مغاضباً ... فلطمه وهشم أنفه ... فاشتكى الفزاري إلى عمر... فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف ؟!.
فقال : إنه وطئ إزاري! ولولا حرمة البيت لضربت عنقه، فقال له عمر : أما الآن وقد أقررت،فإما أن ترضيه ... وإلا اقتص منك ولطمك.
قال : يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟!.
قال عمر : يا جبلة، إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه، فما تفضله بشيء إلا بالتقوى .
قال جبلة : إذن أتنصر .
قال عمر : من بدل دينه فاقتلوه ... فإن تنصرت ضربت عنقك.
فقال : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين ... قال : لك ذلك، ... فلما كان الليل خرج جبلةُ وبعض أصحابُه من مكة... وسار إلى ديار بكر فتنصّر ... فلما مضى عليه زمان هناك ... ذهبت اللذات ... وبقيت الحسرات ... تذكر أيام إسلامه ... فندم على ترك الدين فجعل يبكي ويقول :
تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوةٌ * وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ * وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعةٍ * وقد يصبر العود الكبير على الدبر
وكأن عمر بن الخطاب سمع بهذا وخالج نفسه الندم، فاوفد احدهم إلى حيث جبلة، فلما قدم إليه وجده يرفل في الحرير والديباج والذهب وتحيط به الجواري الحسان والغانيات المجان من كل صوب ومكان، ويحيا بمستوى عيش هرقل.
حاوره الصحابي الجليل، وطمع منه أن يعيده إلى الدين الحنيف حينما لمس رقة قلبه، ولكن الكبر منع جبلة من العود الأحمد وقال : إذا عدت إلى الإسلام هل يزوجني عمر إحدى بناته؟... فأجابه الصحابي جزافا : أن لك هذا، فسأل جبلة : وهل سيؤمرني على القوم مكانه؟... فسكت الصحابي ولم يُجب.

أقفل الصحابي لما يئس من جبلة عائدا إلى المدينة، فلقيه عُمر بتشوقه لسماع الخبر، فيذكر الصحابي لسيدنا عمر ما كان بينه وبين جبلة، ويأتي على طلبه ألأمارة، فيقول عمر مقاطعا: ويحك ألا وافقت؟!...عد من حيث اتيت وقل له أن عمر موافق.

يرجع الصحابي الجليل إلى جبلة فيجد الناس قد فرغوا من جنازته فيعلم أنه قد كُتب عليه الشقاء.
ما عنيته من تناص ما أوردته الحالة في أوطاني، كم هو الوجع في الخاصرة مما يجري في سوريا العصية على الفتن!... فليس طلاب السلطة هناك بأحسن من المتشبث بها وليس المتشبث بأسوأ ممن ينشدها بكل الوسائل ولو أتى على نصف ألشعب، ألمهم أن يصل إلى الكرسي ... أن يصل إلى ديمومة الكراسي حتى لو تحالف مع الشيطان، أو حتى لو جف بردى وسالت فيه بدل الماء دماء.



hekmatqat@yahoo.com