أضف إلى المفضلة
الجمعة , 03 أيار/مايو 2024
الجمعة , 03 أيار/مايو 2024


العافيةُ المفقودة...!

بقلم : د. صالح سالم الخوالدة
17-02-2013 11:02 AM
العافيةُ المفقودة...!

هَب أنّك وجهت لجمهورٍ عريض من النّاس في مجتمعك السّؤال الآتي: ما هي العافية المفقودة في بلدنا مثلاً؟ طبعاً ستأتيك أغلب إجاباتهم متباينة وكلّ حسب تفكيره وتصوّره واهتماماته، وستكون بعيدة كل البعد عمّا جاء به ذلك الكاتب الرّائع والمفكر العظيم صاحب الميتة الغامضة عام تسعمائة واثنان بعد الألف، واسمه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) القديم في تأليفه حيث كتبه في مصر قبل موته أو قتله، والحديث المُعاصر في فهمه لما يحدث في وطننا الآن... .

يقول الكواكبي: (العافية المفقودة هي الحريّة السّياسيّة...، ومهرها كثرة الطّلّاب)، وعند النّظر والتّأمل في هذا القول؛ تبرز لنا أهميّة الحريّة السّياسيّة التي سأبدأ معك أوّلاً بأوّل ولأُثبت لك عزيزي بأنّها لم تكن يوماً موجودة أصلاً لنقول بأنّها اليوم لدينا مفقودة...!

هلّا راقبت أوّلاً ما يجري في أيّامنا هذه، ولتصرخ معي تالياً صرخة الحريّة في وجه الظّالمين والفاسدين المستبدّين الذين شملوا جميع مجالات حياتنا بالظّلم والطّغيان والاستبداد؟ ألست ترى الآن ملامحَ ثلاثتها في ثلاثة ...؛ في الدّين وفي العلم وفي السّياسة...؟ ألم ترى بأنّها أصبحت لنا بيئة ومحيطا وألفناها خانعين واستسلمنا جميعاً لنارها، وثورتنا عليها تكاد لا تتعدّى ظواهر صوتيّة نطلقها هنا وهناك...

أمّا إن سألتني عن أسباب انحطاطنا سياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً وما أعيشه أنا وأنت من فتورٍ وتخلّف...؛ فالجواب عند الكواكبي إذ يقول: (الاستبداد يجعل الإنسان فاقداً حبّ وطنه لأنّه غير آمنٍ على الاستقرار ويودّ لو أنّه انتقل منه، وضعيف الحبّ لعائلته لأنّه ليس مطمئنّاً على دوام علاقته معها،...وأسير الاستبداد لا يملك مالاً غير معرّضٍ للسّلب ولا شرفاً غير معرّضٍ للإهانة...)، إذن...؛ الاستبداد هو دائي وداؤك ولن نشفى منه جميعاً إلّا بالعدالة والشّورى اللتان يطمئنّ بهما الإنسان على ذاته وذويه، ويتمتع من خلالهما بحقوقه كاملة، وفيهما يأمن على عائلته ووطنه...، فأين نحن من هذا يا هذا؟

لقد كنت أتمنّى لو أكون فيما سبق مخطئاً وأنّنا على العكس نعيش في أعلى مستويات العدل والشّورى وأفضل حالاتهما...؛ ولكنّ الواقع يقول بأنّ الأردنيين قلقون غير مستقرّون، طاقاتهم معطّلة، حوافزهم وطموحاتهم مقتولة، بلدهم محرومة من عطاءاتهم حيث كفاءاتهم العلميّة والاقتصاديّة مهاجرة أو مُحالة إلى التّقاعد في سنّ ٍ مُبكّر، وأسلوب حياتهم اللامبالاة، وعجلات تقدّمهم مفتوقةٍ، إذ يغتربون مع حكوماتهم فيزدرونها وتزدريهم (و لأمّهاتهم مقويينا...)، وهل يحدث ذلك إلّا في ظلّ استبدادٍ عدوٍّ لدودٍ للحريّة، أو ظلمٍ ضد العدل، أو طغيانٍ ضد الكرامة والفطرة الإلهيّة...؟!

وأظنك لا بدّ وأنّك قد سمعت بالمتمجّدين ما هم وما شروط الانتساب لهم...؛ وتسهيلاً للأمر دعني أوضح لك بأنّهم هم ما نطلق عليهم اليوم الرّموز والحاشية والنّخبة (الأشباح المصنوعة أصحاب الحظوة والمناصب) وما إلى ذلك...، ولأنّني لن أكون أفصح من الكواكبيّ...؛ فلتسمع يا أخي ماذا يقول عنهم وفيهم: ( فهؤلاء المتمجّدون هم فئة جعلت نفسها حاشية خاصة، فهم العين التي تراقب كل كبيرة وصغيرة لا تكون لصالح التسلّط، وهم اليد التي يُعتَدى بها على كرامة الآخرين، ويُستباح بها حرماتهم، والمستبدّون أعداء للحقّ وللحريّة، أنصار للظّلم والاستبداد...)، أمّا شروط الانتساب لهذه الفئة...؛ فأريدك أن تقارن وتعقل وتربط وأنت تسمعها من الكواكبي عندما يقول: (ومن شروط الانتساب إلى هذه الفئة أن يكون طالب الانتساب خُلْواً من أيّة قيمة ومبادئ دينيّة أو أخلاقيّة، وهي شروط ضروريّة حتّى يكون المتمجّدون أعداءً للعدل، أنصاراً للجور، والمقصود من إيجادهم والإكثار منهم هو التّمكن بواسطتهم من تعزيز الأمّة على إضرارِ نفسها تحت اسم منفعتها...)، وهنا إن تمعّنت كما طلبت منك...؛ فلن تكن بحاجة إلى من يُفسّر لك الكثير مما يحدث فينا وبيننا...، وبخاصة سبب تمسّكهم بنظام الصّوت الواحد الذي يعزّ الذّليل فينا ويُذلّ العزيز منّا، وتحت ما يُسمّى بالديمقراطية وهذا ما قصده الكواكبي بإضرار نفسها تحت اسم منفعتها... .

ولن أترك الكواكبي إلّا أن يُلخّص ليَ ولك الأمر، فيخبرنا في المقابل عن طلّاب المجد وليُفرقهم عن المتمجّدين فيقول: (طلّاب المجد يمتازون بالإقدام والتّضحية من أجل الجماعة، وشعارهم: أن الشّرف لا يُصان بغير الدّم، والمتمجّدون لا يُرجى منهم الخير، بل هم المساعدون على جلب الويلات لأمّتهم وشعبهم، فالاستبداد يُنمّي في عدد من المُقرّبين من ذوي السّلطان طلب التّسفّل بدل طلب التّرقّي...، بينما مناخ الحريّة والعدالة يُفجّر الطّاقات الكامنة في كلّ إنسان، فالفرد يعيش في ظلّ العدالة والحريّة نشيطاً على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، وبالمقابل ترى أنّ الإنسان في ظلّ الاستبداد يعيش خاملاً ضائع القصد، حائراً لا يدري كيف يُميت ساعاته وأوقاته، ويدرج أيّامه وأعوامه، وكأنّه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التّراب...) ومن منّا لم يُفكّر بالموت بعد ولم يمنعه عنه إلّا التّواصيَ بالحقّ أو التّواصيَ بالصّبر أو الاثنان معاً؟!

وأخيراً...؛ يَفترض الكواكبي بعض الحلول التي يدعونا للأخذ بها للحيلولة دون تحويل المجتمع بداء الاستبداد إلى جثّة هامدة ينال منها كل من أراد من أعدائنا المتربّصين، وأن لا يُصاب بسببه أصحاب القدرات بالسّلبيّة والتّشاؤم والقلق، ويرى بأنّ الطّغيان لا بدّ أن يدفع المستنيرين من أبناء المجتمع الواحد إلى مقاومة الاستبداد، ولله دره عندما يقول: (يدفع الطّغيان المستنيرين من أبناء المجتمع إلى تكثيف جهودهم، وتنشيط حركتهم من أجل تنوير النّاس، واستنهاض هممهم من أجل مقاومة الاستبداد ومقارعة المستبدين...)، وهنا لن أخاف على الكواكبي لو سألته مثلاً: كيف وبأيّ سلاح ستتم المواجهة يا عبد الرّحمن؟ فمثله وبقامته الشّامخة...؛ لا بدّ أن يُجيبك فيقول: ( العنصر الأهم في هذه المواجهة هو الوعي الدّقيق لمشكلات المجتمع، وتلمّس الحلول لها، تمهيداً لبدء حركة الإنقاذ والوعي، وهذا لا يتوفّر عادة إلّا بنشر الثّقافة وتحديد الملامح الأساسيّة لأطر الفكر السّياسي الإصلاحي الذي سيعتمده دعاة النّهضة...)!

رحم الله الكواكبي...؛ لقد كان يحفظنا عن ظهر قلبٍ ويعرفنا، وكأنّه يعيش الآن بيننا، ولو أنّه يُبعَث؛ لتجرّأت وقلت بُعِثْ...!


التعليقات

1) تعليق بواسطة :
17-02-2013 12:47 PM

العنصر الأهم في هذه المواجهة هو الوعي الدّقيق لمشكلات المجتمع، وتلمّس الحلول لها، تمهيداً لبدء حركة الإنقاذ والوعي، وهذا لا يتوفّر عادة إلّا بنشر الثّقافة وتحديد الملامح الأساسيّة لأطر الفكر السّياسي الإصلاحي الذي سيعتمده دعاة النّهضة...)!

بادئ ذي بدء أتقدم من موقعنا الحر"كل الاردن"بالتماس وطلب ملِّح أن ينقل المحرر الكريم هذا المقال الرائع الى زاوية إتجاهات ليُتاح لنا جميعا كقرأء أن نناقش ونتحاور في هذه المقاله المُوجَزه الرائعه والتي تحمل أفكارا ونقاطاً لو تناولناها وأسقطناها على الاحداث التي مر بها وطننا العربي والاردن بشكل خاص ضمن ما حملته العقود الماضيه لوجدنا أن الكواكبي إنما كان يصف حالا كان موجودا في بلداننا وما يزالُ الى اليوم فطبائع الاستبداد ما زالت مترسخةٌ ومتأصله في جينات من يحكمونا ويتوارثوها هم والمتمجدون وما زلنا نحن الاغلبية الصامته نخضع ونخوض في طريقين لا ثالث لهم فاما أن نبقى صامتين ونموت كما تموت البعران وهذا حالُ أغلبنا واما نكون طلابُ مجدٍ يحاربنا المستبدون والمتمجدون لنهلك دون مجدنا ولعمري ان شوقي قد لخص الطريق في شعره حيث أن الموت والهلاك هو النتيجة الحتمية لكلا الطريقين المحتموين التي يخضع لها المظلومون.
فإما حياةٌ تسرُ صديق__وإما مماتٌ يغيضُ العدا.

كل الشكر والتقدير دكتور خوالده على هذا الايجاز والتلخيص المتقن الرائع لحيانا وأتمنى على المحرر الكريم أن يكون لالتماسي مكانٌ ومجال.

2) تعليق بواسطة :
17-02-2013 01:15 PM

أخي الدكتور صالح..تحية واحتراما عدتم والعود أحمد مقالة تنويرية كاملة الدسم
نرجوا أن تؤتي أكلها لعل وعسى أن يستفيد منها أبناء قومي اللذين أبتلينا بهم وأعني السحيجة الذين يشكلون الجزء الأكبر من الأغلبية الصامتة ألتي يتشكل منها مجتمعنا البائس.
ولنكن واقعيين يادكتور ولا نلوم هذه الفئة ونعتب عليهم فالموروث الذي
ورثوه من الآباء بتبجيل الشيخ وشويره والرضا والقبول بل الخنوع
لإ ستبداده والسكوت على أخطاءة
متجذر فينا ومن الصعب الفكاك من هذا الأرث على الأقل في هذا الجيل وخصوصا أن
النظام يهيمن هيمنة مطلقة هو والنخبة التي تدور في فلكه على الميديا الإعلامية
ولنا في القنوات الفضائية التي تطبل
وتزمر أكبر مثال. .هذا عدى عن ما يردده كل مسؤول من رئيس الحكومة الى أصغر مدير دائرة من لازمة التبجيل
ومنح الفضل لصاحب الفضل حتى لو سألته عن توفر الأكسجين في الهواء لأدعى أن ذلك حدث بتوجيهات من فوق.

3) تعليق بواسطة :
17-02-2013 05:19 PM

بكت القلوب قبل المقل ودمعت الخواطر قبل العيون...
بعد قراءة المقال وتعليقات السيد يونس والسيد طايل لم يخطر ببالي اولا إلا كتابة المقولة اعلاه
لكن يا دكتور صالح سالم الخوالده العافية لن تكون مفقودة طالما امثالكم المخلصين متواجدين اصحاب اقلام ومباديء تفضح وتسطر الواقع الاليم ، ولا تنسى ان تروي بذور الصحوة والنخوة لانقاذ وطن جريح .

4) تعليق بواسطة :
17-02-2013 06:34 PM

مفال رائع اخي د.صالح
الطغيان هو سبب فقدنا انفسنا اولا ومن ثم فقدنا كرامتنا وحريتنا
فهل يستطيع من فقد كرامته وحريته ان ينشغل بالحريه السياسيه او ان يميز مابين ماهو سياسي وما هو غير سياسسي
الخوف مازال يعشعش في قلوبنا وما زلنا اذا تكلم احد من ابنائنا نصرخ ونقول اسكت للحيطان اذان
فهل نحن المرتجفون الخائفون نستطيع ان نطالب بحريه شخصيه عوضا عن مطالبتنا بالحريه السياسيه
الكره الان في ملعب المفكرين والمصلحين والمثقفين لتوحيد جهودهم ومواجهه الباطل بالحق و اخراج الناس من بعبع الخوف وتعريفهم بحقوقهم التي سلبت وتم اعطائهم جزء يسير منها على شكل منحات واعطيات ومكرمات حتى ابسط حقوقنا اصبحنا نطلبها بمكرمات ؟؟؟

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012