أضف إلى المفضلة
الأحد , 28 نيسان/أبريل 2024
الأحد , 28 نيسان/أبريل 2024


استقالة عبد الباري قراره الحُرّ من عام مضى

بقلم : لينا أبو بكر
17-07-2013 12:56 PM
قبل ما يقارب العام، أخبرني الأستاذ عبد الباري عطوان عن نيته مغادرة القدس العربي يوما ما، لم يحدد اليوم، ولكنه كشف الحجاب عن واقع كان لا يمكن تصديق واقعيته أو تجاوزه لإطار النوايا المؤجلة إلى حين لا يحين.
ربما راق لي أن أعتبر هذا البوح حينها عارضا صحافيا يُلم بنا كلما نكأت أقلامنا موضع حقيقة ما، فسال جرحها من تبعات ما ندفعه جراء النكء. لكن يقيني بأن نوايا عطوان هي قراراته هو ما دفعني لسؤاله بعد ذهول:
لمن ستترك القدس؟ وهي ارتبطت باسمك وقلمك؟
لكم أنتم لأقلامها.. حياتي كلها صحافة، لقد أعطيت للقدس الكثير ومن حقي أن أستريح وأتعرف إلى الكائن الذي أجلته طويلا، وسرقته الصحافة مني، إلى عطوان الراوي.. سأصدر رواية!
هذا ما قاله لي حرفيا، رغم أنني في لاوعيي ارتأيت بالوعي أن أجزم بضرورة أن يكون القرار متخذا مع وقف التنفيذ، وكان يحلو لي ألا أنتظر زمنا لن يجيء ورواية تبقى طي التأجيل.
الصحافي إذن يترجل ليتيح لنا اكتشاف الراوي الذي تحدث عنه عطوان في مذكراته، ولم يأت القرار سوى ممن اتخذه، هكذا يجب أن أفهم الأمور مادام السر ليس للكتمان وإشهاره أول أمانة أردها لأصحابها.
أتيت القدس وعمري ستة وعشرون عاما، عقدت قراني على فلسطيني مغترب في لندن وعيني على ‘القدس العربي’، فلندن عندي هي ذلك المكتب الصغير في شارع كنغزستريت في بلدية همرسمث، التائه بين أبواب المكان حيث لا باب له ولا يافطة تدل عليه، كما اعتدنا هنا في المشرق ونحن نبحث عن ملامح الأمكنة من عناونيها العريضة والمبرزة على واجهة بنيانها مهما تواضع حجره.
منذ العام 2000 وحتى العام 2006 لم ألتق عطوان، أبدا، ولما التقيته كنت أهم بمغادرة الجريدة، وكان هو قد دخلها لتوه، فألقيت السلام وعرفت بنفسي، توقعت أن يكون ودودا ومتواضعا وابن بلد، وتوقعاتي كانت يقينا، أصر على دخولي مكتبه ورحب بي وأبدى تقديره لقلمي حيث أعلمني أنه يتابع كل كتاباتي باستمرار..
الكتابة ليس فقط كينونة إنما هي أن تقبض على الكينونة بكامل رشاقتها وأنت دائما تقف على حافة الهاوية، أية جمرة إذن هي المسؤولية. كانت السياسة هي الهاجس الذي يحرك الصحافية، ولقائي بعطوان شجعني للتطرق إلى مواضيع أكثر سخونة، فتوجهت للتحقيقات الصحافية مع الضحايا الناجين من المذابح الصهيونية، لكنه وفي أحد لقاءاتي به في مكتبه اقترح علي ما لم يكن ليخطر ببال القلم يوما: الكتابة في زاوية أسبوعية مختصة بالنقد الإعلامي، ومنها دخلت إلى عالم السلطة الرابعة من أوسع أبوابها..
كان يرى فينا ما لم نكتشفه بعد في أنفسنا.. يعثر على ما تدخره أقلامنا بمهارة قناص تليق بنزعة اكتشاف على درجة استثنائية من المهنية والاحتراف.
و كان قاسيا معي، لكن القسوة كانت مغلفة بالساتان والحرير الناعم، قسوة لم أرها، لم تصلني منه مباشرة، لكنني حدستها بما لم أكتبه أصلا وليس بما كتبته ولم يُنشر.
صحافة القدس هي صحافة الحرية والقسوة… الحرية التي لا يمكن أن تلتقطها من الرصيف على طريقة الشحاذين والمتسكعين، الحرية الصعبة التي تنالها عندما تدرك أهمية الحفاظ عليها مع استحالة امتلاكها، طالما أنها المسؤولية، والمسوؤلية لا يمكن أن تُسخر لأحد، بقدر ما تُسخِّر الجميع من أجلها بما أنها الأمانة الأقدس.
هذه هي القدس التي تشحذ رصاصك من بندقيتها، وأنت واقف على جبل من البارود، من دون أن تضطر لوضع يدك على الزناد.
هنا حيث الجرأة تعني المغامرة والاقتحام، الجرأة التي تتجاوز الممنوعات وتخترق الأسلاك الشائكة لتغدو الحقيقة هي الرقيب الوحيد على الزيف والخديعة، وعلى الدسيسة، خاصة حين يتعلق الأمر باستيراد الخبر وتحوير عملية الصناعة الخبرية بما يحتمل مفهوم قلب الحقائق لا نقلها والعمل عليها من منظور صحافي بحت، جعل من القدس محجا لناشدي الأمانة الصحافية في صحيفة محظورة لأمانتها فقط. حين تكون المهنية بالدرجة الأولى هي الإصرار على الانفراد بالحقيقة، فهذا يعني أنها مهنية محرمة في عالم لا يعتبر الصحافة مهنة بقدر ما يعول عليها كطبيب تخدير أو حتى ككاتم صوت بالصوت.
الحرية التي تقسو لأنها ليست برستيجا في بلاط الصحافة، ليست إتيكيتا سياسيا..
الحرية التي تقسو كلما كانت القسوة أهم ضرورة من ضرورات الدقة والمهنية، بحيث لا تتحول إلى مساحة فضفاضة لا تتسع سوى للعبث والمجانية..
الحرية التي تعلمك معنى أن تكتشف لا أن تعري، أن تكشف لا أن تفضح، كل ما عليك فعله وأنت على متن هذا الجبل المدجج بالقسوة هو أن تربط الحزام استعدادا لمعركتك مع كل ما هو متاح لك من حرية، كي لا تنقلب عليك حريتك، ويغلبك طمعك بها، فتخطئ البوصلة وتقع في أهم محظور من محظورات الحرية: الحرية نفسها!
في القدس ستظل في شك من أمرك، هل أنت حر أم أنك حر؟
خوفك من حريتك ككاتب هو شجاعتك أمامها، لأن حجم المعاناة المبذول هنا هو من أجل الحرص على عدم تبديد الحرية بطاقة انفعالية زائدة عن حاجة الحقيقة.. لا غرابة إذن أن يكون نشدان القسوة هو الطريق إلى اكتشاف الهدف من القسوة.
عبد الباري عطوان.. أيها القاسي الحر.. الفلسطيني الـ ‘Organic’ كما اعتاد أن يناديه بعض الإعلاميين البريطانيين كلما قابلوه، لأنه يحمل روح الأرض ببساطتها وعفويتها وذكائها، وهكذا اعتدنا أن نراه نحن أيضا، نختلف معه؟ نعم! وقد نغتاظ أيضا حين يتعلق الأمر بالبرزخ الشفاف بين رئيس التحرير وابن البلد، ولكنك في كل مرة تخالفه تتفق مع الضرورة للاختلاف معه كأحد السبل الأساسية لعدم إفساد الود.
أهديته في أحد الأعياد السنوية لـ’القدس العربي’ مفتاح عودة معلقا على باب مجازي، خططت عليها عبارة بحجم الحنين، علقها على حائط جانبي في مكتبه، وكلما كنت ألتقيه كنت أتفقدها كأنني أتفقد وشم قلمي على جدارية القدس. الآن وأنت تغادر أيها الصديق اللدود والأستاذ الأخير، وتبشر بـ: ‘أننا عائدون’ أرفع لك كوفية اللغة، وأطمئن الحقيقة على الحرية مادامت القدس في أيد أمينة، ولا خوف عليها، لأن ما بُني على حق هو الحق.

‘ رئيسة تحرير جريدة أسرانا الالكترونية

التعليقات

1) تعليق بواسطة :
18-07-2013 08:53 PM

خسارة مغادرة عطوان للقدس العربية ..

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012