حدثتكم سابقا عن بعض طُرف خلف، فلقد زرته البارحة بعد أن منعتني ظروف من أن أغشاه مباركا في العيد السعيد، فخيرا أن تأتي متأخرا من أن لا تأتي أبدا، وكعادته، وجدته منبطحا على (جاعد - جلد تيس قديم)، صدره إلى وسادة يابسة، يلعب برجليه إلى أعلى ملوحا بهما في الهواء فوق مؤخرته كلما لمعت في رأسه فكرة، عقاله سقط لتوه سهوا إلى جانب إبريق الشاي والذي أفقدته النيران لونه اللماع منذ زمن بعيد منتصبا على مقربة منه وبزنبوعه كأنما إوزة رصدت فجأة صياداً يَعِسُ الروض ليجد للطير فيه ظلا.

قبل أن أوصف لكم دفتر ملاحظات العم خلف ومدونة أفكاره وصندوق أسراره، بعيدا عنه كانت تجلس القرفصاء العمة أم عقاب مستعدة لطلباته وأحيانا لشتائمه ولومه لها على عدم فهمها لاحتياجاته وتدني مستواها التعليمي والمعرفي، تجلس متحفزة لِصَدِ بعض (الشباشب) وربما العقال والمكتات والكاسات في بعض حالات الهجوم المباغت، متوترة رغم تعودها على الحالة والوضع الصعيب منذ أكثر من نصف قرن من الزمان مع الحج خلف.

سألتها يوما: لما لا تتركيه وترحلي عنه إلى أهلك أو أولادك فقالت: ليس قليلة أصل حتى اترك زوجي وأخرى لا تعرفونها... قالت: (أني بحبه).
أعود للعم خلف وقبل أن أصل للدفتر وما حوله من مستلزمات، فلقد تعلم الكتابة وبعضا من القراءة على يدي معلم أيام معدودة في مسجد القرية، وكانوا يسمون المعلم في ذلك الزمن (الخطيب) ...فلا يروح ذهنكم لمعالي عبدالأله الخطيب فهذا غير ذاك، ذاك كان مستقلا لم تُعَيّنه الدولة.
المهم أن خلف بعد أيام بسيطة من الانتظام في مدرسة جامع القرية، هرب بعد أول (فلكه) تلقاها من الخطيب لينقطع عن زملاء الدراسة ويلتحق بالقطيع،...زملاءه بعضهم تقلد المناصب العليا في الدولة، بينما هو وكما يقول قعد به النصيب وساق له العذاب وأم عقاب ومستواه التعليمي (بيضه ورغيف) والبلد لم توفيه حقه.

أمام الحاج خلف دفتر كبير أكل عليه الدهر وشرب وعلى أوراقه الكثير من الصمغ والورق اللاصق العائد لأصناف عدة كلا منها يروي تاريخ عقدٍ من الزمن، والجلدة الخارجية فيها الكثير من الرُقع وبقع الشاي.

أذكر يوما أن العم خلف أراد مني أن التزم معه بتحسين مستواه في الكتابة والقراءة ليُقلع عن الأمية وليستطع أن يقرأ القرآن أفضل، وقد أجبرني أحياناً على القيام بهذه المهمة الصعبة، لكني سريعا ما تخليت عنها كوني مَلول ولم أقتنع بأسبابه وموجبات حبه المفاجئ للتعليم ولقد ووسوس لي الشيطان بعد أن نظرت إلى عينيه وشواربه المدهونة بصبغة (جناح الغراب) أن الشايب مُصاب بالغرام وأعراض المراهقة الرابعة، والمصيبة ربما تدور على رأس العمة أم عقاب وإن لفي الأمر مؤامرة!، ولرغبة في نفسي ونفس يعقوب أقلعت عن هذا الهاجس، خاصة حينما رأيت العم خلف يتدرب كثيرا على كتابة كلمة (وزير) وكثيرا متعمدا أو سهوا كان يُسقط حرف الواو فتصبح (زير).

الدفتر في بعض صفحاته تواريخ خطابات عبدالناصر وتاريخ زيارة الباهي الأدهم إلى الأردن وخسائر إسرائيل على الجبهة السورية وأعداد طائراتها التي أسقطت في حرب تشرين، وفي إحدى الصفحات باللون الأسود داخل مربع تاريخ سقوط القدس وتاريخ سقوط بغداد وفي إحدى زواياها صورة من ورق الصحف للشهيد صدام حسين يُطلق النار من بندقية البرنو والأخرى لعبدالناصر وفي الأسفل هزاع ووصفي ومكتوب بحروف تائهة في أسفل الصفحة (ذباحكوا واحد).

في اللحظة، كان الدفتر بجانبه دفتر صغير جدا(ميكرودفتر) مكتوب على جلدته السوداء بالأحمر (دفتر أوتومان) وليس بعيدا عنه علبة التتن الهيشي (علبة الدخان العربي) وأظنه من ماركة (شعر البنات) وتتناثر هنا وهناك حول إبريق الشاي وبين الكاسات بعض أقلام الرصاص وحبر قديم، وحتى (قلم كوبيا) لم تُبقي منه الأيام إلا ثلاثة أو أربع سنتمترات.
عُدت بنظري إلى دفتر الأسرار المفتوحة صفحته البيضاء وعلى يمينها صفحة هُتكت بكارتها وخُدشت عذريتها ببعض الخرابيش فدنوت أسترق النظر لأستطلع ماذا كتب الشايب ؟!.

يا هول ما رأيت وقرأت!... لقد أقال الحكومة بجرة قلم اعتبارا من الخميس وبدأ بتشكيل حكومة جديدة بدون رأس وأخفى بالأصبع الوسطى وزارة الداخلية، فاسترقت النظر إلى ما تحت الإصبع وإذا مكتوب هناك بخط دسم من قلم الكوبيا: (خلف للداخلية).
سألته فجأة: هنالك وزارة مُهمة أسقطتها سهوا يا عم خلف؟... تذكر وصاح موافقا: نعم، صحيح، (عفيه... يا السبع).... وضرب جبهته بكفه وقال: الحجة أم عقاب للأوقاف.


tel: 0795482538 hekmatqat@yahoo.com