أضف إلى المفضلة
السبت , 18 أيار/مايو 2024
السبت , 18 أيار/مايو 2024


عمانتي ودراويشها
29-02-2012 09:29 AM
كل الاردن -

alt

حسن بلال التل

يعايرني بعض الاصدقاء بأنني (فافي أصلي), فرغم الكرش واللحية والهندام "المهرجل"، (محسوبكم مواليد الشميساني أيام عزه)، لكنني في واقع الحال –عدا عن اربديتي المفرطة- عماني شامل، أشعر أن عمان هي أنا، وأن كل جزء من تضاريسها هو جزء من ملامح وجهي، بل إنني ورغم المليونين ونيف من البشر الذين يغزون شوارعها صباح مساء؛ في أحيان كثيرة أفتقد وجوها بذاتها، واستغرب وجوها أخرى، وأحس أن عمان –على قسوتها في بعض الأحيان- مثل أمي، أو كما تسميها إحدى الصديقات ((عمانتي)).

وعلى صفحة عمان على الفيسبوك شاهدت قبل أيام صورة؛ في هذه الصورة كان أحد الوجوه التي افتقدتها منذ زمن، هذا الوجه كان وجه (الأستاذ نبيل)، و كطفل عماني درس وتربى بين جبل عمان ووسط البلد, كان منظر الأستاذ نبيل حاملا كيسه في يد، وكتابا في الأخرى أمام مكتبة الأمانة، وفي حنايا الساحة الهاشمية، من أكثر المشاهد الثابتة واللصيقة في الذاكرة.. وكان جدي أبو جاسر (صديق دراويش وسط البلد) يدعوه دوما لمجالسته على باب محل صديقه الخليلي.. هناك عرفت أن هتلر، وفقع، وإنعام، والأستاذ نبيل وسواهم ممن كنا نجهل أسماءهم ونكتفي بأن نسميهم ظلما وزورا بالمجانين، أكثر عقلا وحكمة من جلّنا.

دراويش عمان جزء منها ومن حياتها وحياتنا، هم مثل المدرج الروماني والساحة الهاشمية وطلة القلعة في ليلة صيفية، لكنهم أيضا بشر، أناس بقلوب وعقول وقصص بعضها عادي وأخرى أغرب من الخيال، أحدهم رغم كرشه الناتئ وصلعته التي لوحتها الشمس، والكيس المليء بعلب البيبسي الفارغة، في واقع الحال ابن لأسرة مرتاحة، يسكن مع شقيقته في بيت ملك، يخاف من الأطفال ويقدس كوب قهوة حلوة من كافيتيريا أبو عيسى، ورغم سنواته التي أظنها اليوم فاقت الخمسين، لا أحد يعلم حقيقة قصته، ولا كيف انتهى به الحال درويشا من دراويش عمان.

وأخرى تجوب الشوارع متدثرة بالصوف صيف شتاء، يقولون إن حبا ضائعا كسر قلبها وخطف عقلها فهامت في أزقة عمان، وثالث يرتدي زيّ هتلر مرة، وأسمالا بالية مرة أخرى يجوب عمان محدثا نفسه، وناهرا الصبيان، لكن اذا جالسته سمعت منه منطقا يعجز عنه الفلاسفة، وهناك أيضا الأستاذ نبيل الصامت عادة والكتاب لا يفارق يده، لكنه المستشار الأمين لكل من يعرفونه ويقدرونه، والذي اختار الابتعاد عن كل ما في هذه الحياة، فرافق الكتاب وصادق القطط وعاش تحت أشجار الساحة الهاشمية.

هؤلاء وسواهم كان يجذبهم الختيار أبو جاسر وصاحبه الخليلي إلى باب الدكان القديم، يقدم لهم كرسيا وزجاجة ميرندا، يطمئن على أحوالهم، يسمع منهم أخبار الدنيا والناس، ويكف عنهم أذى العابثين والتجار الماليّن في يوم بطيء الحركة. وعلى باب ذلك الدكان أصبح كل من هؤلاء جزءا من حياتي ومن (عمانتي)، لكنني أعترف أنني وكأي صديق جحود، أخذتني الدنيا ونسيتهم ونسيت معهم جزءا من عمان؛ سمعت أن منهم من توفي، ومنهم من انقطعت أخباره، ومنهم من تردى به الحال مع تقدم السن وكثرة الجاحدين، وموت أمثال أبو جاسر.

وعلى صفحة عمان على الفيسبوك، وتحت تلك الصورة كتب سطران: (بمزيد من الحزن والأسى نتقدم بأحر التعازي وأصدق المواساة - إلى عقلاء وسكان عمّان بوفاة صديقهم الأستاذ نبيل - من العلماء الذين اختاروا الشارع طريقتهم للحياة والتفكر. الفاتحة على روحه الطاهرة).. مات الأستاذ نبيل الذي عاش ما كسب مات ما خلى.. لم يطلب من الحياة إلا رغيفا وكتابا.. عاش بصمت وغادر بصمت، ويكفيه ويكفيهم أنهم ما آذوا أحدا.. مات الأستاذ نبيل دون أن يدري أهل عمان.. فكما يقولون: أمران لا يعلم بهما أحد: موت الفقير ومعصية الغني.. كم هي قاسية الحياة وكم هي بلا رحمة هذي العواصم...

الأستاذ نبيل حسبما أوضح أهله, دُفن وفتح له بيت عزاء يليق به, لكن سواه من دراويش عمان, لم وربما لن يجدوا مثل هذا, لا من قريب ولا من غريب, لذا وحتى نثبت لأنفسنا ولعمان أنها لم تتحول الى وحش بلا روح، وأننا ما زلنا بشرا أيضا، أتبنى دعوة أحد الأصدقاء وأرجو أن نجد من يتبناها معنا، بأن تقام مبادرة أهلية لرعاية دراويش المدينة وأهلها الذين بلا أهل, وفي حال وفاة أحدهم تقام له جنازة تليق به، كإبن لعمان ومَعْلَم من معالمها، وأن ينشر له نعي بتبرع من إحدى الصحف وأن يكون نصه: (أهل عمان ينعون ابنهم، فمن لا أهل له، عمان كلها أهله) ولتشارك عمان كلها في الجنازة.

فهل من يعيننا على ذلك ويثبت لنا ولعمان أنها ما زالت أمنا الحنون؟؟.. أرجو ذلك

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012