أضف إلى المفضلة
الخميس , 02 أيار/مايو 2024
شريط الاخبار
بحث
الخميس , 02 أيار/مايو 2024


هل هناك أخلاق في السياسة -1

بقلم : د . سعيد توفيق
27-12-2023 07:42 AM

الرأي الشائع الذي يتداوله الناس والساسة أيضًا هو أنه لا أخلاق في السياسة ولا سياسة في الأخلاق؛ فالسياسة هي فن إدارة المصالح بصرف النظر عن الأخلاق. وهذا الرأي ليس جديدًا وإنما يضرب بجذوره في الفكر القديم والحديث: فها هو ذا تراسيماخوس -وهو من كبار السوفسطائيين في عصر قدماء اليونان- يقول: إن «العدالة هي تحقيق مصلحة الأقوى»، ومعنى ذلك أن العدالة في الواقع وفي إدارة شؤون الناس ينبغي أن تنتصر للأقوى؛ فالحكومة هي السلطة الأقوى في أي مجتمع، وهي قد وصلت إلى الحكم بهذا الاعتبار، أي بوصفها الحزب الأكثر قوة، ومن ثم فإنه يحق لها الوصول إلى أهدافها وفقًا لمنطق القوة التي تمتلكها. وها هو ذا ماكيافللي يرى أن السياسة لا تتعلق بالبحث عن المدينة الفاضلة، ولا بالبحث عن العلاقة بين مدينة الله ومدينة الإنسان كما ذهب القديس أوغسطين، وإنما تتعلق بالبحث عن أساس الأخلاق على المستوى الفردي والمستوى العام، وهو ينتهي إلى مقولته الشهيرة: «الغاية تبرر الوسيلة». والواقع أننا حينما نتأمل الممارسات السياسية الدولية عبر العالم نجد أن هذا التوجه هو ما يحكم هذه السياسات حتى في الدول المتحضرة التي تتبنّى نظمًا ديمقراطية تتوخي العدالة.

والواقع أن الديمقراطية يتم الترويج لها باعتبارها صناعة غربية بلغت ذروتها في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بريطانيا، وهي نظام يكفل الحرية والعدالة الإنسانية للبشر. ولقد روَّج لهذا الرأي الكثيرون لعل أشهرهم في الفكر المعاصر الباحث الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما الذي كتب مقالًا بعنوان «نهاية التاريخ»، وهو مقال قد أثار إعجاب الساسة في أمريكا، فشجعوه على تطوير مقاله في كتاب تم الترويج له بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».

شاعت هذه الرؤية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه باعتبار ذلك دليلًا على انتصار النظام الديمقراطي على النظام الشيوعي المستبد. وليس معنى ذلك أننا ينبغي أن ندعم أو نؤيد النظم الشيوعية أو الاستبدادية في مواجهة الديمقراطية، بل إننا نهدف فقط إلى الكشف عن عوار النظم الديمقراطية كما تتجلى في ممارسات السياسات الدولية.

ولكننا حينما نتأمل الأمر بشكل أكثر عمقًا نجد أن هذه الديمقراطية التي يروج لها الغرب باعتبارها غاية إنسانية وأخلاقية، هي سياسة يتبعها الغرب فيما يتعلق بالسياسات الداخلية التي تتبنّى نظمًا ديمقراطية بأشكال مختلفة، أما فيما يتعلق بسياساتها الخارجية، فإنها تنظر إلى غيرها من الدول باعتبارها الآخر الذي ينبغي التعامل معه بمنطق تراسيماخوس وماكيافللي، خاصة تلك الدول المستضعفة التي تشكل مطمعًا لها بما تحويه من ثروات وبما تمثل جغرافيتها مجالًا مهمًّا للسيطرة على مجالات حيوية في العالم، وهذا ينطبق على دول عديدة تدّعي الديمقراطية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية وفرنسا وألمانيا وإسرائيل على سبيل المثال. بطبيعة الحال هناك استثناءات تتبدى في مواقف بعض الدول الغربية -مثل إسبانيا- وبعض الزعماء والساسة في الغرب ممن لديهم ضمير إنساني، وهو ما تبدى في المواقف الاستثنائية إزاء حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني. ولكننا بوجه عام نشاهد دعم الغرب لهذا العدوان اللاإنساني على الشعب الفلسطيني، رغم أن هذا الغرب لا يزال يدعي أنه نظام يتبنى الديمقراطية والعدالة والقيم الإنسانية. ونحن نشاهد ذلك يوميًّا ومنذ سنوات في اعتداء هذه الدول على غيرها في العالم أو دعم هذا العدوان وتأييده. وحتى عندما نلاحظ التصريحات التي تصدر عن زعماء وساسة هذه الدول، فإننا نجدها تصريحات منحازة تدعم العدوان الوحشي على الشعب الفلسطيني الأعزل من المدنيين والأطفال على نحو غير مسبوق في تاريخ الحروب والعدوان، بما في ذلك العدوان النازي على غيره من الدول المجاورة.

فهذا العدوان يحدث بحجة تصنيف الفصائل المقاومة من هذا الشعب بأنها فصائل إرهابية، وهي تهمة جاهزة يتم تسويقها إزاء كل ما يمكن تصنيفهم باعتبارهم أعداء لمجرد أنهم يقاومون كل من يعتدي عليهم، ويرفضون الانصياع لهيمنة القوى العالمية عليهم، بما في ذلك أراضيهم ومقدراتهم وقيمهم التي بها يؤمنون. ولقد شاهدنا ذلك، وما زلنا نشاهده في أيامنا هذه من خلال دعم ذلك العدوان الإسرائيلي الوحشي على شعب فلسطين الذي يدافع عن أرضه، حتى تلك الأرض التي تم تحديد حدودها بقرارات عامة للأم المتحدة. ولكن قرارات الأمم المتحدة تبدو كما لو كانت حبرًا على ورق: فالأقوى هو الذي يحدد أو على الأقل يؤثر في هذه القرارات الدولية. وحتى قرارات مجلس الأمن الدولي التي من المفترض أن تكون ملزمة هي قرارات تتحكم فيها الدول العظمى التي تمتلك حق الفيتو، وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية التي تستخدم دائمًا حق الفيتو في نقض القرارات التي تتعارض مع مصالحها، وإن تعارضت مع العدالة والأخلاق؛ ولذلك فإنها تدعم دائمًا دولة إسرائيل على حساب شعب فلسطين، باعتبارها ذراعها في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. وبذلك يمكننا القول بأن النظم العالمية التي وضعها الغرب المفترض أنه ديمقراطي، هي نظم غير ديمقراطية وغير إنسانية وغير عادلة، طالما أنها لا تتبع سياسة العدالة والمساواة من خلال الاقتراع. وهذا يصدق على القرارات التي تحكم سياسات العالم مثلما تصدق على سياسات الدول التي تدعي أنها معقل الديمقراطية والإنسانية والعدالة.

وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم قول تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الذي أصدر القرارات المروِّعة في أثناء الحرب العالمية الثانية: «لقد ارتكبت من الجرائم لصالح بريطانيا، ما لو ارتكبته بداخلها لقضيت حياتي كلها في السجن». وهذا يدل على الازدواجية في نظرة الغرب للعلاقة بين السياسة والأخلاق؛ بالضبط لأن ما يحكم هذه النظرة هو الصلة بين السياسة والمصالح فيما يتعلق بالتعامل مع الآخر. وللحديث بقية في شأن العلاقة بين الأخلاق والسياسة.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل».

صحيفة عُمَان

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012