أضف إلى المفضلة
السبت , 18 أيار/مايو 2024
السبت , 18 أيار/مايو 2024


رمضان وفلسفة السمو

بقلم : د. رحيّل غرايبة
18-06-2015 01:20 AM
لا يفقه حقيقة الفلسفة الروحية السامية للصوم إلّا من يغمره ذلك الاحساس العارم بالفرحة الخفيّة بقدوم شهر رمضان، والسرور الناعم الذي يجتاح الوجدان بطريقة يصعب وصفها لمن لم يتذوقها واقعاً مشهوداً وملموساً عبر رصيد الروح المختزن خلال سنوات طويلة من الرياضة ومكابدة الشوق للمحبوب.
من أشد أنواع الضرر التي لحقت بالمسلمين في هذا الزمن المتصف بالقحط الروحي؛ ذلك النوع من التدين السطحي الجاف، الذي تحولت العبادة فيه إلى طقوس مفرغة من مضمونها، وأصبحت عبارة عن تصرفات ثقيلة يتم أداؤها بمنتهى البلادة الذهنية، لا تحدث أثراً إيجابياً في سلوك الفرد ولا المجتمع.
نحن منذ اليوم الأول من رمضان بحاجة ماسة إلى البحث والتنقيب عن الروح المطمورة بين ركام الجشع والطمع وحب الدنيا والشهوات ومسلسل السيئات والمعاصي الكثيرة، التي حجبت النور عن القلب الذي أحاطت به أغلفة سوداء قاتمة وطبقات من ظلمات بعضها فوق بعض « كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ» حيث أصبح الناس عبارة عن قطعان متوحشة لا تعرف الوجل أمام ذكر الله، ولا تقشعر أبدانهم لرؤية الدم المتخثر من الأوداج المذبوحة، ولا تلين قلوبهم لدموع الأطفال والثكالى، لأنها قاسية كالحجارة بل هي أشد قسوة.
رمضان يشكل إطلالة على الروح المتعبة والقلوب المكلومة، لمن يطلب الشفاء بصدق التوجه وإخلاص العزم على إطالة السجود على عتبات خالق الروح، ومن خلال الإصرار على جلاء القلوب بكثرة الاستغفار والابتهال عبر المناجاة الباكية وقت الأسحار، من أجل السير قدماً في معارج التزكية، التي لا تتحصل إلّا بالعزوف عن الشهوات، والانقطاع عنها طوال اليوم، بانتظار غروب الشمس والتعرض لنسمات علوية شفافة تجتاح الأوصال بكل حب ومودة وتخلو من كل شائبة.
لا بد من انتظار الغروب بلهفة المحب، ونظرات الطرف الساهم وجداً وهياماً لاستجداء لفتة الرحمن الرحيم، الذي تعرف آثاره من خلال زمرة من السلوكات السامية التي تفيض بالعطف والتسامح والتغافر، وحب العفو عن الناس، وإيثار العطاء، والتخلق بسجايا الكرم والجود، وعفة اللسان وبسط اليد وحسن المشاركة والتعاون مع البشر، الذي يرتفع بالمقام الإنساني إلى المستوى الملائكي الرفيع.
إن الذين يجعلون من رمضان شهراً للطبيخ والتخمة وزيادة النّهم نحو شهوة الطعام والشراب، إنما يناقضون مقصد الصيام غاية و شكلاً ومضموناً، فلا تسمو لهم روح ولا يستقيم لهم سلوك، ويبقى أسيراً لضيق الصدر وقسوة القلب، وتوتر الأعصاب وصداع الرأس، يقاتل ويشتم ويصرخ، ويغلظ في صوته ويزاحم في حافلته، ويغش ويدلس، ولا يمتنع عن غيبة ولا نميمة، حتى لو امتنع عن الطعام والشراب سائر يومه وصلى التراويح.
الصيام ايقاظ للروح، ومن لم يستطع ايقاظ روحه لن يشعر بلذة الصيام والعبادة، وسوف يتحول إلى إنسان آلي يؤدي شكل الصوم والعبادة، بلا جوهر ولا معنى، ولن يكون قادراً على فهم القول ولن يكون قادراً على إدراك معنى الموعظة، وسوف يقابلها بالسخرية والهمز واللمز.
لو أدركت الأمة معنى الصوم وحقيقته وفلسفته الروحية السامية، لتحول الناس إلى مجتمع راقٍ ومتحضر، تسوده المحبة المتبادلة والتعاون المثمر، واللغة الجميلة، والتكافل والتكامل الذي يصنع الوحدة والقوة القادرة على تغيير الأوضاع وقلبها رأساً على عقب، «نَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ».

(الدستور)

التعليقات

لا يوجد تعليقات
تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
بقي لك 300 حرف
جميع الحقوق محفوظة © كل الاردن, 2012